هنا.. حيث لا مكان للبراءة

حسين خليفة:

هذه بلاد تقتل براءة الأطفال، تدفن إنسانية الكبار.

عندما تعتاد عينك على مشاهدة أطفال يتسوّلون، ينامون على الأرصفة، يغوصون بقاماتهم الطريّة في حاويات القمامة، تصبح جزءاً من اللعبة، تصبح شريكاً بشكل أو بآخر في صناعة المأساة، بصَمْتِكَ على الأقل.

هل المشكلة هي في عدم تحديد النسل؟!

إنها حكاية قديمة قدم الفقر الذي نشأ مع نشوء الطبقات وتمركز الثروة بيد فئة قليلة.

لطالما جاء من يقول من وعّاظ الأثرياء والسلاطين: المشكلة تتلخّص في أنّ هؤلاء الفقراء الذين يسكنون بيوتاً بائسة يتكاثرون كالأرانب، من أين سنأتي لهم بالطحين والوقود والمسكن والحليب والتعليم؟!

وكأن المشكلة في التكاثر اللاعقلاني والمنفلت من عقاله فحسب، وهو ـ التكاثر المفرط ـ  أمرٌ منافٍ للعقل والوعي الاجتماعي طبعاً، هذا الوعي الذي لن يعرف طريقه إلى سكان العشوائيات واللائذين بأحضان طوائفهم وعشائرهم بديلاً عن الوطن والدولة والقانون.

في قراءتنا لكل ظاهرة لا بدّ أن نعود إلى جذرها الأول، إلى أساس المشكلة ومصدرها، كما نتعامل مع مرض في الجسد بالبحث عن السبب وعلاجه، وليس الاكتفاء بالمسكّنات الخادعة.

ظاهرة الأطفال المتسوّلين أو المشرّدين أو نابشي القمامة كانت موجودة منذ عقود في سورية، لكن بشكل محدود وبخجل، وكانت موضوعاً لأكثر من تحقيق صحفي وتصريحات سياسية وأخذ وردّ، لكنها الآن طغت وكبرت وصارت تصدمك أينما تلفّتّْ.

أطفال يمسحون زجاج السيارات على إشارات المرور وهم في الواقع يتسوّلون أصحاب السيارات لدفع ما تيسّر لهم، أطفال يبيعون العلكة أو البسكويت وهم في الواقع أقرب إلى التسول أيضاً، أطفال يبيعون الخبز على باب المخابز ويتحمّلون البرد والشمس و(غارات) الدوريات عليهم، لأنهم يدمِّرون الاقتصاد الوطني ويعيقون نجاح تجربة البطاقة الذكية!!

الأكثر جرحاً وإيلاماً هم أولئك الأطفال الذين ينبشون في القمامة، تكاد تغيب ملامح وجوههم وألوان ثيابهم في الغبار والقذارة.

الآن تجد عائلات بأكملها (الأمّ غالباً والأولاد) يعملون معاً في نبش القمامة واستخراج مواد بعينها منها (كرتون وورق أو نايلون وبلاستيك أو زجاجيات وغيرها) وفرزها وجمعها في أكياس عملاقة يجرّها الصغار واليافعون على ظهورهم، أو على عربات مهترئة، إلى مراكز التجميع التي تشتريها منهم بأبخس الأسعار، ثم تبيعها لمعامل التدوير التي تُعيد تصنيعها وضخّها في السوق.

هذه الصناعة (إعادة تدوير القمامة) معروفة وموجودة في الدول المتقدمة أيضاً، لكن صيغ العمل تختلف، هناك شركات مختصّة بتجميع المواد الموجودة في القمامة، وفرزها، وتوزيعها على المعامل المختصّة، لكن في بلادنا المبتلاة بمسؤولين يقسمون الناس بين مواطنين عاديين هم الأغلبية الجامعة الصامتة المقهورة، ومواطنين (سوبر) هم قطّاع الطرق وأثرياء الحرب، في بلاد كهذه يقوم الأطفال والنساء الهاربون من الجوع بنبش القمامة بأياديهم، وحملها في (أكياس جنفيص)، أو جرّها إلى دكاكين مُخصّصة تبيعها الى معامل بدائية تنتج مواد مُضرّة بمستخدميها وبالبيئة، ما دامت كلّ الموبقات ارتُكبت وتُرتكب دون حساب.

قد تتفتّق عبقرية ولاة الأمر عن حلّهم المعروف والمتكرّر، وهو شنّ حملات على هؤلاء الضحايا واعتقالهم، وبالتالي دفع ما يترتّب عليهم لاحقاً للفلفة الموضوع والعودة إلى الحلقة المفرغة، إنه باب رزق أيضاً لولاة الأمر، وإن كان المال الذي سيدفعه هؤلاء البؤساء مقابل تركهم مغموساً بدمائهم وبصحتهم وصحة أولادهم، التي تنهشها الأوساخ والجراثيم التي يستنشقونها خلال العمل.

المشكلة أنّ هؤلاء لا يتوقفون عن إنجاب اطفال جُدد باستمرار، يدخلون (سوق العمل) وهم براعم غضّة، فيتشوّهوا ويشوَّهوا.

طبعاً المسألة حلقات مترابطة، وتتوالد من بعضها بمعادلة بسيطة وواضحة: فقر ـ جهل ـ رفض لكل ما يقوله العقل والعلم ـ المزيد من الأولاد دون أيّ أمل أو مستقبل، فالله هو الرزّاق كما يردّدون، ثم يجلسون في خيامهم أو غرفهم المظلمة ويرسلون الأولاد إلى هذا الجحيم، ليأتوا لهم بأثمان الخبز والدخان وربما المخدرات أيضاً.

التقيت أطفالاً كثيرين من هؤلاء وحاولت التحدّث إليهم، بعضهم تجاوب وأغلبهم رفض مجرّد الحديث.

المقهور حين تأتيه ولا حلول لديك وأنت عاجز عن تقديم شيء له، يحاربك وربما يؤذيك أيضاً، هكذا هم.

المهم يجمع بين هؤلاء الأطفال أنّ كل واحد منهم ينتمي إلى عائلة فقيرة تسكن في بيت مهجور شبه مدمّر، أو خيمة، أو بأحسن الأحوال غرفة واحدة للعائلة كلها لا تعرف الضوء والشمس، والأب لا يتقن غير الإنجاب ونفخ الدخان من سيجارته التي على هذا الطفل أن يؤمّن ثمنها أيضاً، والأمّ مقهورة تتلقّى نطاف الأب كل ليلة وتنجب له طفلاً (عاملاً) كل عام، ولا يهم ما سيحدث بعد ذلك، فالآية الكريمة تقول: (ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق، نحن نرزقهم وإياكم)، وهذه لازمةٌ تتردّد على ألسنة هذه الفئات.

أعرف عائلات كانت تسكن في مراكز الإيواء بداية الحرب، وهي مدارس خُصِّصت كلُّ غرفة منها لعدد من العائلات تفصل بينها بطانيات المعونة، وتسمع الهمسة بينهم، مع حمّامات مشتركة طبعاً. ورغم كل هذا الوضع البائس وغير المناسب لسرقة قبلة تجدهم يمارسون حياة زوجية عادية وينجبون أيضاُ؟!

وعود على بدء، لا يتحمّل هؤلاء مسؤولية ما يحصل إلاّ في حدود ضيّقة، فلو أُتيحت الفرصة لهم ليعيشوا في أحياء تدخلها الشمس والمدارس والحدائق، لو توفّر لهم عمل كريم، لو أنهم لم يُجبروا على ترك قراهم ومزارعهم هرباً من الفقر والجفاف وغياب الاهتمام والدعم للزراعة وتربية المواشي، لما انحدروا إلى هذا المستوى من الجهل وانعدام الإحساس بالمسؤولية.

إنها مسؤولية السلطة التي تُغمض عيونها عن الأسباب والعوامل المُنتجة للفقر والتخلّف والجهل والحرمان، ثم تنصرف لاحقاً إلى ملاحقة النتائج، واستثمارها أيضاً.

العدد 1107 - 22/5/2024