وطني سماؤك …

إيمان أحمد ونوس:

الوطن هو الرحم الأول للحياة.. والصرخة الأولى مُعلنةً رفض الابتعاد..

هو الصورة الأولى المُتجذّرة في الوعي والوجدان.. والذاكرة المُتشبّثة أبداً بكل لحظاته وتاريخه وحضوره في الزمان..

هو مساحة الأمان والأحلام والآمال نرسمها بعمق انتمائنا وانسياب تغلغله في نسغ حضورنا وكياننا المُعمّد بترابه ومائه والسماء..

هو ملاذنا في لحظات الحزن والخوف والقهر.. ودِثَارنا في لحظات ارتعاش عُرينا في زمن البلاء والدمار!

هو ملاذ الفقراء والمضطهدين والمقهورين والمستضعفين الذين لا مال لهم ولا سلطة ولا سطوة سواه.. فهو ثروتهم وكنزهم المخبأ في قلوبهم والصدور!!

وهو توهّج الحنين والاشتياق لصور مُتجذّرة في ذاكرات وقلوب مغتربين ومهاجرين رحلوا بحثاً عن مجد علم ومعرفة.. وربما سعياً وراء ثروة مال وجاه.. مثلما هو الصورة الأولى والأخيرة العالقة دوماً في ذاكرات وأرواح مُهجّرين مُرغمين على الترحال بحثاً عن أمان مفقود وسلام منشود..

ليس الوطن صكّ ملكية لأحد.. ولا هو حديقة يُمنع دخولها إلاّ للمرغوب فيهم والمريدين..

وليس الوطن مجرّد هوية ووثيقة وجواز سفر.. ولا هو سطوة وجاه ونفوذ..

الوطن لكل أبنائه الصابرين أبداً على الوجع والقهر والفقر والحرمان.. ولأولئك الذين كانوا قرابين حرب مجنونة أطاحت بكل ما يملكون، حتى غدا الوطن بالنسبة لهم خيمة أو دار إيواء خالية وخاوية من كل إنسانية واحتواء.. فاختاروا الهجرة مُرغمين مقهورين.. أولئك الذين سينتظرهم الوطن، طال الزمن أم قصر، بكل الشوق وطغيان مرارة الغياب رغم عجزه اليوم عن استعادتهم!!

فالوطن إذاً هو أولاً وأخيراً لأولئك المتشبّثين به حتى النفس الأخير بلا سعي وراء مجد أو ثروة أو جاه.. الوطن لكل السوريين بانتماءاتهم المتنوعة التي لوّنت سماءه بألوان قوس قزح..

فهل يمكننا أن نتلمّس حدود وديانه وأنهاره وجباله وسواحله وكل ذرّة تراب فيه تهبنا الخلود والأمان؟

هل حقيقة ما زال الوطن كما وصفناه، أم أنه اتّخذ شكلاً آخر ومفاهيم لم نعهدها من قبل نحن الذين وصفتنا الدراسات وصنّفتنا في خانة المواطنين الذين تعمل الدولة على حماية حقوقهم الأساسية التي نصّ عليها الدستور في المادة 12:
(الدولة في خدمة الشعب وتعمل مؤسساتها على حماية الحقوق الأساسية للمواطنين وتطوير حياتهم كما تعمل على دعم المنظمات الشعبية لتتمكن من تطوير نفسها ذاتياً).

إذا كان هذا هو مفهوم المواطنة في الدستور، فإلى أية خانة يمكن لنا أن ننضمَّ، ما دمنا لا نحصل من مواصفات هذه المواطنة على أدنى حقوقنا، وهي العيش بكرامة تليق بإنسانيتنا عبر تلبية مستوىً ضئيل من احتياجاتنا الأساسية (الطعام، الصحة، التعليم…. الخ).

وإذا ما ألقينا نظرة متفحّصة على الواقع المعيشي الذي يلقي بظلاله الثقيلة على الغالبية العظمى من السوريين، فإننا لاشكّ نجد اضطراباً غير معهود خلخل واقع الناس بما لا يقبله عقل أو منطق، اضطراب مسَّ بشكل أو بآخر جوهر وجود الإنسان، أي طعامه- قوت يومه الذي بات عبئاً ثقيلاً ينوء تحت وطأته الجميع، مثلما مسَّ أمانه الذي افتقده في ظلّ الانفلات غير المسبوق لكل القيم والأعراف والقوانين، وبالتالي ضياع وغياب القيم الأخلاقية التي تُميّزنا عن باقي الكائنات، تلك القيم التي ترفض أن يمرض أو يموت إنسان بسبب الجوع والبرد مهما كان الثمن.. لكننا وللأسف شهدنا وعشنا شتاءً لم يعشِه من عاصروا أيام السفر برلك بكل تجلياتها وآلامها وقهرها، مقابل بذخ وتبذير لقلّة ممّن أثروا وأُتخموا على حساب جوعنا وبردنا ومرضنا وفقرنا الذي اغتال كل إمكانية للإحساس بأننا حقاً مواطنون في بقعة من أرض كانت تُسمّى وطناً حين كنّا نشدو ونغني له: وطني سماؤك حلوة الألوان!

العدد 1107 - 22/5/2024