حول (الجيوبوليتيكا).. ما بعد الحرب الباردة

يونس صالح:

يكاد يكون من الصعب ترجمة كلمة (جيوبوليتيكا) إلى العربية، فهذه الكلمة منحوتة من دمج الكلمتين اللتين تعنيان الجغرافيا والسياسة، وترجمتها إلى الجغرافيا السياسية أو السياسة الجغرافية لا يؤدي معناها تماماً، وكل ما نملكه هو تصوّر معناها بأنها السياسة المبنية أساساً على عوامل جغرافية.

لقد غطت الحرب الباردة أو الصراع بين المعسكرين الكبيرين، بعد الحرب العالمية الثانية، على الجيوبوليتيكا بما انطوت عليه من اختلاف مذهبي كبير كان هو المحور الأساسي للصراع ما بين المعسكر الغربي الرأسمالي بزعامة الولايات المتحدة الأمريكية، والمعسكر الاشتراكي بزعامة الاتحاد السوفييتي السابق، وقد انتهت الحرب الباردة بانهيار المعسكر المذكور، وتبديل نظامه السياسي والاقتصادي ليقترب من النموذج الغربي، وبضمن ذلك حلّ الاتحاد السوفييتي ذاته، حيث كانت الاشتراكية هي أساس توحده، بديلاً عن الإمبراطورية الروسية في عهد القيصرية.

وكان أوضح نتائج حل الاتحاد السوفييتي، الذي كان من المتصور نظرياً أن يبقى متحداً مع تبدّل نظامه السياسي والاقتصادي باتفاق جميع الجمهوريات المكونة له، أو معظمها، أقول كان أوضح هذه النتائج هو ظهور الولايات المتحدة الأمريكية باعتبارها القوة الكبرى الوحيدة في النظام العالمي الجديد، بعد زوال القوة الأخرى التي كانت تناوئها.

ومن موقع الانهيار الذي لحق بالمعسكر الاشتراكي في شرق أوربا، اختفاء حلف وارسو الذي كان يضم مختلف دوله الأوربية، أو معظمها، وبضمن ذلك الشطر الشرقي من ألمانيا، الذي اتحاد من جديد على ما كان يعرف باسم ألمانيا الاتحادية أو ألمانيا الغربية، وبعد أن كان متصوراً نظرياً أيضاً أن انتهاء الحرب الباردة وزوال انقسام العالم إلى معسكرين على أساس مذهبي، يمكن أن يكون من نتائجه اختفاء كلا الحلفين المتقابلين في أوربا، فيذهب حلف الأطلسي مثلما ذهب حلف وارسو، إلا أن المعسكر الغربي الذي لم يلحقه الانهيار مثل خصمه الشرقي، آثر الاحتفاظ بحلف، وأكثر من ذلك سعى إلى توسيع هذا الحلف لكي يضم دولاً من شرق أوربا، كانت جزءاً من المعسكر الاشتراكي المنهار، ومن حلف وارسو المنتهي، وبضمن ذلك بولونيا ذاتها التي كان الحلف الأخير يحمل اسمها عاصمتها، ولم تُدعَ روسيا إلى الانضمام إلى الحلف الأطلسي، وإنما دعيت للتنسيق معه فحسب! بينما ظهر ضم الدول التي تقع شرقها، وبضمن ذلك الدول التي كانت أجزاء من اتحادها السوفييتي الذاهب. ظهر هذا الضم وكأنه موجّه ضدّ روسيا على أسس (جيوبولتييكية) تنطوي على تصور مصالح جديدة لـ(الضامّين) من أعضاء الحلف القدامى، ومنضمين من الجدد، فمن مصلحة القدامى، وعلى رأسهم الولايات المتحدة الأمريكية، أن يصبح انضمام أعضاء جدد بمنزلة توسيع سوق السلاح الغربي، الأمريكي أساساً، على حساب صناعة السلاح الروسية التي حرمت من سوقها في أوربا، وقديماً قالوا: (ويل للمغلوب!)، وإن ظهورها بمظهر المغلوب في الحرب الباردة لم تستطع أن تخفي استياءها منه.

إن الجيوبولتييكا حوّلت روسيا إلى الاتجاه المضاد جغرافياً، وهو شرقها، حيث تقع الصين على حدودها الشرقية الجنوبية، فتحقق في الآونة الأخيرة ما يسمّى تقارب استراتيجي بين الدولتين، وهما لا تخفيان في بياناتهما الرسمية أن من أهداف هذا التقارب إنهاء وضع (القطب الواحد) الذي يرسم سياسة العالم. وواضح أن المقصود في ذلك هو الولايات المتحدة الأمريكية! ومن أهم إنجازات هذا التقارب إنهاء الخلاف بين الدولتين على الحدود، وهو الخلاف الذي كان مستحكماً، ووصل إلى حدّ الصدام العسكري ما بين الدولتين في العهد الشيوعي، وينطوي هذا التقارب على مبادلات اقتصادية واسعة النطاق تشمل من بين ما تشمله صناعة السلاح والبترول والغاز الطبيعي ومد أنابيب قد تصل إلى اليابان، إذا جرى التفاهم معها هي الأخرى حول جزر كوريل المتنازع عليها في المحيط الهادي، ومن بين عناصر التعاون بين روسيا والصين السماح لهذه الأخيرة بالاستثمار في مجال الزراعة في أراضي سيبيريا الواسعة التي تكاد تكون خالية من السكان.

ومن الغريب أن المطالبة بالسماح للفلاحين الصينيين باستثمار أجزاء من سيبيريا، كانت قديمة من أيام العهد الشيوعي في الدولتين، وكان السوفييت يرفضونها بشدة، برغم أن الصينيين كانوا يعتبرونها مطلباً مشروعاً في مفهوم (الدولة البروليتارية) لإطعام ملايين من أبناء الشعب الصيني، وكانت تلك أحد عناصر الصدام بين الدولتين في الماضي، وكان الانشقاق بين الاتحاد السوفييتي والصين الشعبية حول هذه المسألة وسواها هو أكبر إسفين دقّ في كيان ما سمي بالمنظومة الاشتراكية في العالم، وكان محل جدل المعسكر الغربي والولايات المتحدة الأمريكية بصفة خاصة، ولم تبخل هذه الأخيرة على الصين بالتعاطف معها توسيعاً لهوة الخلاف بين الدولتين الكبيرتين، حتى صار صراعاً سافراً، لا شك في أنه كان معول هدم رئيسياً أفضى مع عوامل أخرى لانهيار المعسكر المذكور.

لقد اضطرت روسيا طلباً لإنهاء الحرب الباردة وسباق التسلح الذي كانت على وشك أن تخسره تماماً إلى التخلي عن منطقة نفوذها في شرق أوربا، التي زحف عليها النفوذ الغربي ولفها في عباءة الأطلسي، واضطرت إلى التخلي عن (اتحادها السوفييتي) لأسباب ديمغرافية، مؤداها أن معدل المواليد في الجمهوريات السوفييتية السابقة في آسيا الوسطى، كان يبلغ ثمانية أطفال للأسرة الواحدة، بينما كان المعدل المقابل هو طفل واحد للأسرة في الجمهوريات الأوربية السلافية، ومعنى ذلك أنه لو بقي الاتحاد السوفييتي إلى القرن الحادي والعشرين لأصبح المسلمون أغلبية فيه، ولقد أصبح أمنها مكشوفاً، فالحلف الأطلسي على أعتابها، والعمل على إدخال خاصرتيها الهامتين جورجيا وأوكرانيا، في عداد الحلف، شكّل الشرارة الأساسية التي دفعت روسيا للتدخل بشراسة من أجل منع ذلك، ولا يمكن فهم تصرف روسيا، إلا انطلاقاً من ذلك، ومن دوافع أخرى إمبراطورية هادفة لاستعادة روسيا ما خسرته بعد تفكك الاتحاد السوفييتي.

أخيراً، لابد من الإشارة إلى أن التقارب بين روسيا والصين لا يغفل أمر مسلمي آسيا الوسطى، أو التركستان كما كان يعرف تاريخياً، حيث له امتداده في المنطقة المعروفة باسم ستكيانج في الشمال الغربي للصين، ويجري العمل على احتواء هذا التركستان كله في إطار التقارب المذكور، قبل أن يؤول إلى النفوذ الغربي من خلال تركيا التي تسعى لاحتوائه في إطار طوراني، أو يؤول إلى اتحاد إسلامي لا يزال، مثل التوحد العربي في إطار الإعلام فقط.

 

العدد 1105 - 01/5/2024