نحلم بوطن!

حسين خليفة:

ويا وطناً بالحب نكسو أديمَهُ                       فيحجب عنّا رضاه ويمنعُ

لعلّ هذا البيت للشاعر إلياس أبو شبكة يختصر ما نريد قوله في علاقتنا بوطن لم يعد لأهله، رغم كل ما قيل ويقال عن الاستقلال والجلاء والثورات والانقلابات التي ظلّت تُردّد شعارات جميلة غاوية، لكنها حين تنتصر يكتشف الناس أنها ما انتصرت سوى عليهم، وأكملت مهمتها في سحب آخر نسغ حياة من شجر الوطن.

يكتب الأديب الكبير زكريا تامر في تقديمه لكتاب الشاعر والمسرحي محمد الماغوط (سأخون وطني) عن علاقة المواطن بوطن مغتصب، والاغتصاب ليس احتلالاً خارجياً بالضرورة:

(الأوطان نوعان: أوطان مزوّرة وأوطان حقيقية.

الأوطان المزوّرة أوطان الطغاة، والأوطان الحقيقية أوطان الناس الأحرار.

أوطان الطغاة لا تمنح الناس سوى القهر والذل والفاقة، مدنها وقراها لها صفات القبور والسجون، لذا فإنّ الولاء لأوطان الطغاة خيانة للإنسان).

ما الذي يربط الإنسان الطبيعي الحقيقي الصادق بوطنه الذي ولد فيه وتنفّس هواءه وشرب من مائه وأكل من خيراته، وتعلَّم في مدارسه وجامعاته، وخفق قلبه لأول حبٍّ في حواريه وحدائقه، وتشكَّلَ وعيُه من تراثه وأغانيه وحكاياته؟

إنّه كلّ ما ذُكر أعلاه وتفاصيل أخرى لا تنتهي، لكن مشروطاً بالكرامة.

حين تفقد كرامتك وقيمتك كإنسان في وطنك، يفقد هذا الوطن مكانته في روحك وقلبك، يصبح مجرّد جغرافيا باهتة لم تخترها إنما اختارك القدر لها، مجرّد أحجار صمّاء وأنهار جافّة وصحارى على مدِّ النظر.

لقد تحولت علاقتنا نحن السوريين مع الوطن منذ الاستقلال_ باستثناء فترة الحياة البرلمانية في خمسينيات القرن الفائت_ إلى علاقة حب من طرف واحد، نزرع فيحصد غيرنا، نتفوّق فيُكرّم من كان يمضي الوقت في اللهو والعبث، نسهر الليالي فيحمل الشهادات والألقاب من لم يذق طعم التعب، نُشغِّل المعامل والمصانع فتذهب أرباحها لفئة قليلة من اللصوص، فيما نحن بصعوبة نستطيع الحصول على ما يكفينا للاستمرار في العيش وليس في الحياة.

هل هذا وطن؟

للأسف ليس وطناً تحبه وتحيا من أجله وتموت فداء لترابه.

الإنسان ينتمي إلى عائلة حين ولادته، ثم يتطور انتماؤه إلى حيّه أو قريته، ثم يصبح منتمياً إلى دين أو مذهب أو قبيلة أو حركة أو حزب، لكن كل هذه الانتماءات لا يجوز أن تلغي انتماءه إلى الوطن، الذي يجمعها كلها في إطار واحد جامع يحترم خصوصية الأفراد والجماعات، ويؤمِّن المساواة أمام قانون عادل يجري تعديله كلما استلزم الأمر من قبل هيئة ينتخبها الناس ويعزلونها حين تصبح عائقاً أمام التطور، ويحكم الجميع دستورٌ ديمقراطي يؤمِّن تكافؤ الفرص للجميع في العمل والسفر والرأي، ويجري بموجبه تداول السلطة حسب ما يريده المواطنون الناخبون.

لا حاجة للاستفاضة في الموضوع، فكل كلمة في هذا السياق قد تفتح عليك أبواب الجحيم، ويقفز بوجهك أشباه بشر تشرَّبوا العبودية وأصبحت عندهم نمط حياة لا يقبلون سواه، ويدافعون عنها، عبوديتهم، بالنواجذ والأظفار، أناس أصبح عندهم الوطن قبيلة أو حزباً أو شخصاً، وبهذا تحول الوطن لديهم إلى مسخ وهم مسوخ أصلاً.

لكن هناك مقياس بسيط وواضح ولا يحتاج علماً واسعاً أو ثقافة شاملة ونظريات وتبريرات: الأوطان التي تبقي أبوابها مفتوحة دائماً لمن يريد المغادرة من مواطنيها، وجميع دول العالم تفتح أبوابها لهم، ثم ترى هؤلاء المواطنين لا يغادرونها إلاّ ليعودوا إليها مسرعين، لا لأشواق وحنين فحسب كما يردّد الشعراء، بل لأنهم يشعرون بانتمائهم إلى هذا الوطن، يشعرون بما يقدمه لهم من أمان وحياة حرة كريمة، فيبادلونه العطاء والإخلاص.

وأوطان أخرى لا يجد مواطنوها بلداً يقبل استقبالهم إلاّ بشقِّ الأنفس، وحالما يُتاح لأحد هؤلاء المواطنين فرصة لمغادرتها والعيش في بلاد غريبة، يسارع إلى التقاطها والخروج من وطنه الذي لا يحسُّ بالانتماء إليه للأسباب نفسها التي يحسُّ بها المواطن الآخر بالانتماء إلى وطنه، يخرج ولو على ظهر زورق مُهدّد بالغرق، أو عبر الاعتماد على مهرّبين ومزوّرين، ويبيع كل ما يملكه للوصول إلى بلدان أخرى يحسُّ فيها بإنسانيته وكرامته رغم أنه غريب وافد.

هذه (الأوطان) ليست أوطاناً، بل سجون يعيش مواطنوها وهم يحلمون بالحرية، بالخروج من أسوار السجن إلى فضاء الحرية.
سبق أن سألتُ في نقاش حول الحرية والاستبداد: ما الذي سيحدث إذا أقدم بلد من هذه البلدان المغتصبة من مجموعة أو فرد، تحت شعارات رنّانة وجميلة، على فتح الحدود أمام مواطنيه الذين لا يتجرؤون على مجرّد التفكير بتغيير أحوالهم وأحوال بلدهم؟!

لا أظن أن اثنين يختلفان على الإجابة.
لن يبقى في البلد سوى ثلّة من المستفيدين والمتملقين وقطيع ممّن امتهنوا العبودية والذلّ ولا يحلمون بحياة حرة كريمة.

هذه المقارنة تصحُّ على بلدان كثيرة ابتليت بالبلاء ذاته: الاستبداد، الذي هو جذر كل المفاسد الأخرى من الفقر والجهل والتخلف والفساد والخراب الاقتصادي والثقافي والاجتماعي.

ويبقى السؤال: هل نحلم نحن الباقين هنا بأن تصبح هذه الجغرافيا وطناً حقيقياً لنا؟!

نعم، نحلم، وسنبقى على حلم وسعي دائبين حتى يصبح بلدنا وطناً لمواطنين أحرار فاعلين إيجابيين في الحياة السياسية والاقتصادية والعلمية والثقافية والاجتماعية.

العدد 1107 - 22/5/2024