ما بدأ بالكلمة لا تنهيه الطلقة

إبراهيم الحامد :

لقد بات من المؤكد أن العمل العسكري وحده لا ينهي التنظيمات المتطرفة الإرهابية التي تأسست على الفكر الإقصائي، وخاصة الفكر الديني والطائفي التكفيري، كما أنه لا يستعجل ولا يهيّئ للحل السياسي السلمي، وتصفية قيادي أو متزعم تنظيم إرهابي بين مرحلة وأخرى، وتحقيق انتصار عسكري هنا أو هناك، وخاصة عندما يتحقّق ذلك في ظل الخواء المعيشي والفكري والسياسي وإقصاء الآخر، سيزيد التنظيمات الإرهابية نشاطاً فيما بين الشباب، للتغرير بهم وغوايتهم بوسائل تلامس احتياجاتهم العاطفية والمادية والفكرية، فيسرعون للانضمام إليها. كما أن مسألة محاربة التنظيمات الإرهابية عسكرياً قد باتت شمّاعة لمنظومة الفساد البرجوازية الطفيلية والبيروقراطية المحلية، التي تكونت داخل الحكومات البرجوازية في المرحلة السابقة لما سمّي بـ(الربيع العربي)، والتي انقسمت إلى مجموعتين: (الموالاة)، والأخرى التي انشقّت وسمّت نفسها (المعارضة)، ولقد اتفقت المجموعتان وتفاهمتا منذ بداية الأزمة مع تجار الحروب وقادة التنظيمات الدينية المتطرفة والمليشيات المسلحة، وأقصت في الوقت ذاته القوى السياسية والاجتماعية والمنظمات الشعبية الوطنية، وساهمت في انقسام الشعب وتشرذمه، وتأخير الحل السياسي السلمي، ودفعت بأغلب الناس وخاصة الشباب للبحث عمّا يرتزق منه وقوداً للحروب، بدل أن يكونوا فريسة للجوع والنزوح والتشرد، فبات سهلاً على القوى المتطرّفة الإرهابية وجميع المليشيات المسلحة أن تتصيّد الشباب. وما نسمعه بين وقتٍ وآخر عن قتل قيادي من قادة التنظيمات الإرهابية، لا يحتسب نصراً لأيّ جهة محلية، بل هو نصر سياسي لقادة الدول الاستعمارية المسمّاة بـ(التحالف الدولي) والذين يديرون  الأزمات والحروب المصطنعة في منطقة الشرق الأوسط، تحت غطاء محاربة التنظيمات الإرهابية، وخاصة قادة أمريكا، فمقتل أسامة بن لادن كان نصراً لأوباما، ومقتل أبو بكر البغدادي كان نصراً لترامب، ومقتل إبراهيم قرداش مؤخراً هو نصر لبايدن. إن محاربة التنظيمات الإرهابية والقوى الاستعمارية المحتلة للبلاد ووكلائها عسكرياً يجب، حتى تكون مجدية، أن تتزامن مع  المعالجة الحقيقية والعاجلة للأوضاع المعيشية والتعليمية التربوية والسياسية والاجتماعية معالجة عقلانية وعلمانية، وما سبق يحتاج إلى تكريس حرية التعبير وقبول الرأي الآخر،  وإيجاد حل عاجل لحقوق الشعوب القومية المشروعة، وخاصة الشعب الكردي ضمن وحدة البلاد أرضاً وشعباً، ردّاً على من يتاجر بهذه القضية، وفصل الدين عن السياسة وإدارة الدولة، وتضمين كل ذلك في دستور مدني علماني عادل، بغضّ النظر عما يجري في البلاد حالياً، وبغضّ النظر عن التشرذم والتجاذبات السياسية، لأن في ضوء دستور كهذا يمكن أن نؤسس للحراك السياسي والاجتماعي العلماني، والفكر المتنور الديمقراطي الوطني، فضمن هذه  الحالة الصحية والسليمة، يمكن  البدء بحراك سياسي واجتماعي فاعل يفضي إلى الاصطفاف الاجتماعي والسياسي الوطني داخل كل وحدة اجتماعية من مكونات المجتمع العام، وبذلك يفتح الباب واسعاً نحو وحدة الصف الوطني العام، والتوجه نحو الحوار السياسي الوطني الجاد من أجل بناء مواثيق وطنية ديمقراطية عادلة تحقّق المساواة والعدالة فيما بين مكونات المجتمع الواحد، وفي ذلك الحراك والحوار الوطني يكمن الحل السياسي السلمي للأزمة في كل دولة من دول المنطقة، التي تعاني من الحروب المصطنعة على أثر ما سمّي (الربيع العربي)، فمن دون ذلك ستتسع الأرضية لنشر الجوع والجهل والتخلف في المجتمع، وينمو فيه الإرهاب والتطرف، وتزداد وسائل غواية الشباب مادياً وروحياً وفكرياً للانضمام إلى التنظيمات المتطرفة والإرهابية، وتزداد المجموعات المسلحة المرتزقة، وهذا ما تخطط له القوى الاستعمارية ووكلاؤها المحليون من أجل  تكريس حالة اللادولة وما دون الوطنية والتقسيم.

بهذه الحالة يعيش الشعب وينتظر من ينقذه مما يحيط به من أزمات جوع وبرد وعطش ونزوح وتهجير قسري من كل حدب وصوب، حتى باتت الغالبية منه، إن لم يكُن الجميع، يميلون نحو اليأس والهزلية السوداء التي ولدت من رحم المعاناة المعيشية ورتابة الحياة الاجتماعية والسياسية، ولا يمكن مقاربة ذلك بشيء سوى أحداث مسرحية (صموئيل بيكيت) التي وصفت وعبّرت عن حال المجتمع في ظل تبعات الحرب العالمية الثانية من موت ودمار وضياع وفقر وجوع والعجز عن  التواصل ما بين الناس، فكرّست حياة فردية خالية من المشاعر الاجتماعية الإنسانية، حتى بات البحث عن الخلاص الفردي هو العنوان الأبرز للمجتمع البشري آنذاك. وما دمنا ذكرنا المسرحية فلا بدّ أن نذكر ملخّصاً عما كانت تعبّر عنه المسرحية: (تُعبِّرُ المسرحية عن الأمل المفقود، من خلال حوارٍ بين شخصيتين رئيستين، تنتظران على قارعةِ طريقٍ ريفيٍ حيث لا شيء سوى صخرةٍ وشجرةٍ جرداء.. يغيب عن سمائهما أيّ أمل، ولا رابط بين شخصية كلٍّ منهما والآخر، سوى رابطِ التَمسُّكِ بأوهام الأمل، وبِقُدُومِ شخصٍ يدعى (غودو) لكي يُغيِّر حياتهما الصعبة نحو الأفضل، ويستعيض عنها بحياة الأمن والأمان والطمأنينة والاكتفاء.. يتحاوران في أمورٍ متنوعة، عبثاً، وبِلا ترابُط.. يُثرثران.. ينتظران بِترقُّبٍ وحذرٍ وانفعالٍ وأملٍ، ولكنهما يكتشفان أخيراً أنهُ انتظار بلا طائل.. فلا غودو (المُخلِّص) قد وصل.. ولا شيء جديد قد طرأ، سوى انضمام ثلاث شخصيات ثانوية إليهما، أحدهما يرمز إلى المُستعبِد، والثاني هو رمز المُستعبَد، والثالث هو غلامٌ ينظرُ بعيداً في الأفق آملاً بِحُلُمٍ ما.. وها نحنُ نعاني كل أشكال البؤس والحرمان، نعيشُ الحُلُم والوعود بِغدٍ أفضلٍ، وحكومة تلو أخرى عاجزة عن القيامِ بأدنى واجباتها اتجاهنا، ولا ينقصنا سوى أن ينضمَّ إلينا بضعة ملايينٍ أخرى لِتكتملَ فصول المسرحية).

العدد 1105 - 01/5/2024