من زفرات كتاب وأنّات مكتبة

عباس حيروقة:

ثمة قول لمفكر ومحام وخطيب روماني اسمه (ماركوس توليوس شيشرون، 106 – 43 ق. م) يعكس أهمية توفر المكتبة والحديقة في حياة الإنسان وما تتركه من أثر ثرٍّ وباذخ في سموّ روحه ونفسه، إذ قال:

(إذا كان لديك حديقة ومكتبة فأنت لديك كل ما تحتاجه).

لن نتحدث عن الحديقة وما يتركه الأخضر الأبدي من وارفات الظلال لأرواحنا المتعبة.. ولكن من الممكن أن نتحدّث في هذه الفسحة الماتعة عن الكتاب، عن المكتبة ودورها في صقل النفس وتهذيبها وفي إغناء العقل والروح.

كيف لا وقد تحدّث جلّ الكتّاب والأدباء والمفكرين والفلاسفة في مختلف أصقاع الأرض عن الكتاب.. المكتبة، وقد قيل لأرسطو فيما مضى: كيف تحكم على إنسان؟ فأجاب: أسأله كم كتاباً يقرأ؟ وماذا يقرأ؟

وهذا ما يتقاطع مع ما نقل عن ذاك النقش الذي وجد على باب مكتبة الإسكندرية في ذاك الزمان، والذي جاء فيه: (المكتبة مستشفى الفكر).

وثمة مقولة أيضاً جاء فيها أن أول مكتبة أنشئت في مصر القديمة كتب على بابها (هنا غذاء النفوس وطب العقول).

كل هذا وذاك يقودني إلى أول مرة وقفت فيها أمام مكتبة، وإلى ذاك الشعور المهيب الاستثنائي المضمّخ بالكبرياء والأنفة، والذي مازال ينتابني كلما وقفت أمام كتاب باذخ أو مكتبة عظيمة، حينئذٍ أشعر أن روحي ذابت وعلقت على رفوف كتب ذاك المكان.

نعم، إنه الكتاب.. المكتبة. وكم يحزنني ما نراه اليوم من إمعان شبابنا في نأيهم عن الكتاب! حينئذٍ أدرك حقيقة كم من هزائم تنتظرنا وكم من موات روحي ونفسي وجمالي سيخيم حول بيوتنا وفي مدارسنا وحدائقنا!

فالمكتبة روح البيت.. مفتاح البيت.. باب البيت.

كل ما لم نجده في حيواتنا هو، لا شكّ، ينتظرنا في كتاب.

وكما قلنا زخرت ذاكرتنا بحكم وأمثال تدلّل على أهمية الكتاب، ألم يقل (المتنبي):

أعزُّ مكانٍ في الدُّنى سرجُ سابحٍ

وخيرُ جليسٍ في الأنامِ كتابُ

وكذلك قالها (الجاحظ): يذهب الحكيم وتبقى كتبه، ويذهب العقل ويبقى أثره.

وقال (ابن المقفع): كلّ مضمون ذو هفوات والكتاب مأمون العثرات.

والكاتب الفرنسي (مونتين) قال: أن تقرأ يعني أن تجد الصديق الذي لن يخونك أبداً.

ومما قاله (فولتير): إن أنفع الكتب تلك التي تستحثك على إتمامها.

وميّز (نجيب محفوظ) بين المتعلم والمثقف بالقول: قارئ الحرف هو المتعلم، وقارئ الكتاب هو المثقف.

ومن جميل القول ما ذكره (شوبنهاور): المكتبة هي الذاكرة الوحيدة المؤكدة المستمرة للفكر الإنساني.

كم علينا أن نعمل على تعزيز ثقافة الكتاب.. قراءة الكتاب.. تأبّط الكتاب.. إهداء الكتاب!

كم علينا أن ندرّب أبناءنا.. إخوتنا.. أطفالنا، على ارتياد المراكز الثقافية.. واقتناء الكتاب وجعله طقساً من الطقوس التي نباهي بها!

كم يحزنني ويؤلمني أن أرى ثقافة (الفيس بوك) أو محرك البحث (غوغل) ووسائل التواصل الاجتماعي هي من يعوّل عليها في تأسيس ثقافتهم معارفهم، متناسين أن لا ثقافة حقة يعوّل عليها أو يمكن أن يؤسس عليها سوى ثقافة المجلدات.. المكتبات الأم.

العدد 1105 - 01/5/2024