هل الخصخصة تعدّل العلاقة المشوهة بين الجنوب والشمال؟

يونس صالح:

عندما سيراجع المؤرخون تاريخ الثلث الأول من القرن الحادي والعشرين سيجدون أن هذه الفترة تميزت- من بعض ما تميزت به- بتصاعد الاستغاثات والأنين بين مجاميع كثيرة من البشر، معظمهم من دول ما يسمى بالعالم الثالث، تصرخ مما عرف بالديون وفوائدها، التي استدانتها حكوماتها من البلدان الصناعية المتقدمة، وتراكمت على كاهلها حتى أصبحت أرقاماً فلكية، وسيلاحظون أيضاً أن بعض تلك الأرقام الفلكية المكتوبة بالحبر الأحمر قد تحولت، أو هي في سبيلها إلى التحول، إلى دماء حمراء، تسيل من عروق الجماهير الكادحة، وأن هناك على الأقل أكثر من مليارين من البشر، هم الذين يعانون من نقص في الغذاء والكساء والسكن والرعاية الصحية والإعداد المهني، هم من يرزحون تحت تلك الجبال المالية.

ولقد تعددت الدراسات للتوصل إلى مخارج من هذا المأزق الإنساني، ولكن النتائج مازالت قليلة، كما أن الأمل يضعف- في ضوء توازن القوى العالمي- في أن تصل الإنسانية إلى حلول مرضية في الفترة القريبة والمتوسطة.

معظم الأسئلة المطروحة الاقتصادية والسياسية التي تبدأ: هل يمكن لهذه البلدان، إن فعلت كذا وكذا، أن تخرج من هذه الدائرة الشريرة؟ تبدأ الإجابة عنها بـ: كلا لمعظم البلدان.

إن الحل الأمثل هو إسقاط تلك الديون! ولكنه حل غير ممكن يكاد من المستحيل أن يفكر فيه أحد، لأن الدول الأغنى والأقوى تعتقد أنه ضار باقتصادها.

وفي عدم إمكانية هذا الحل المثالي تطرح اقتراحات متعددة تبدو للوهلة الأولى أنها المخرج المعقول في هذه الدوامة، أحد هذه المخارج التي تناقش في وقتنا بكثافة هي مخرج (إدارة الاقتصاد) كمظلة عامة، يأخذ بعضنا منها ظاهرة التحول من إدارة الدولة للاقتصاد إلى إدارة القطاع الخاص، أو بكلمة واحدة (الخصخصة) كمخرج أساسي.

فهل الحديث عن (الخصخصة) حديث في صلب تعديل العلاقة المشوهة بين الجنوب والشمال، وإنقاذ ملايين البشر من المعاناة والفاقة، أو هو حديث أريد به تطويع اقتصاديات العالم الثالث التي مازالت عصية على الانفتاح على السوق العالمي، من أجل أن يضمن الكبار الحصول- بسرعة أكبر- على فوائد الديون والمواد الخام

إن التحول من قطاع الدولة إلى القطاع الخاص يلقى قبولاً في الكثير من الدول، ولكن يجب علينا مناقشة ذلك في توجهه الدولي وفي تطبيقاته عندنا مناقشة مسؤولة.

يقودنا ذلك إلى الحديث عن مشكلاتنا الاقتصادية- وهو موضوع يطول بحثه- فقد ثار حديث عندنا وتصاعد في الأشهر الأخيرة حول الطرق التي يمكن بها أن نتجاوز المصاعب الاقتصادية التي تواجهنا، وهي مصاعب حقيقية، وظللت بعض هذا الحديث غيوم إيديولوجية، هي من نتاج الماضي أكثر من احتمالات المستقبل، فكان الحديث عن أيهما أحق، أن يُبقى على قطاع الدولة على الرغم من الخسار المادية التي يحققها في معظم منشآته، أو يتحول إلى القطاع الخاص مع المخاطرة في أن تذهب غنائمه إلى الجيوب الخاصة؟

تحمس بعضنا للتحول إلى القطاع الخاص، لحل مشكلتين تبدوان في الظاهرة واحدة، ولكنهما مختلفتان، وهما بيع هذه المؤسسات العامة لسداد بعض الديون الخارجية المتراكمة، أو رفع الأعباء المالية التي تفرضها هذه المؤسسات (الخاسرة) على حكومات تعاني من عجز دائم في ميزانيتها، والأخرى الرغبة في رفع الكفاءة والقضاء على الفساد الإداري والمالي اللذين تفشيا في بعضهما، وترك آليات السوق للتحكم في العرض والطلب ومن ثم إصلاح الاقتصاد.

أما تاريخ التوجه إلى تدخل الدولة في الاقتصاد فله خصوصياته، فهو لم يكن أيديولوجياً بحتاً عندما بدأ، ولو أنه تحول بعد ذلك إلى هذا الطريق. بدأ ذلك بالتأميم لممتلكات شركات خارجية، ثم تأميم ممتلكات مواطنين، وقد هيمنت الدولة بالتدريج على النشاط الاقتصادي. ولا يستطيع أحد أن يجادل أنه على مستوى الاقتصاد الشمولي قد قدمت تلك السياسات منافع كثيرة للمواطنين، إلا أن هذه المنافع نتيجة للظروف الموضوعية والذاتية بدأت تتقلص بسرعة، وواكبها تزايد في الفروقات الداخلية، وتدني الالتزام الاجتماعي والتنظيمي، وحولت التدخلات السياسية تلك المنافع القليلة لتقتصر على مجموعات الصفوة، كما اتسعت البيروقراطية إلى درجة عرقلت تلك المنافع من الوصول إلى أصحابها.

ومع التوجه العالمي نحو (الخصخصة) ظهرت أصوات عندنا تنادي بذلك، وتطالب بتطبيقه، ولقد اتسمت دراسة الظاهرة- مع الأسف- بكمّ كبير من (الأدلجة) وكأن الخيارات المطروحة: إما قطاع خاص شامل، أو قطاع دولة سائد، ولا ثالث لهما.

لكن، لعله قد آن الأوان لإعادة النظر في مفاهيم النماذج التنموية وأساسياتها وفق التغيرات الاقتصادية والاجتماعية التي تسود العالم.

إن فكرة مسؤولية الدولة وتحكمها في قطاعات بعينها تتراجع، كما أن فكرة تخلي الدولة بالكامل عن مسؤولياتها فكرة طوبائية، ولم يعد الخيار حالياً مطروحاً بين نموذجين، بل المطروح هو الحاجة إلى صياغة جديدة تلبي ظروف الواقع، وتعبر عن أهداف المجتمع بمرونة وديناميكية.

إن استمرار الفكر التنموي أسيراً للنماذج التنموية الكلاسيكية، سيدفع إلى مزيد من التناقضات مع جديد الاقتصاد، ومتغيرات الإدارة وحاجات المجتمع، وعلينا أن نقوم بالجهد الضروري من أجل ابتكار طرق ناجحة لتحقيق التقدم والتنمية، ولن يقوم غيرنا بذلك.

 

العدد 1107 - 22/5/2024