اغتراب الماضي واغتراب الحاضر

يونس صالح:

مقاربة تاريخية

في تاريخنا هناك اغتراب تذكّرنا به أشعار المغتربين الشهيرة، لكن اغتراباً آخر تجري وقائعه الآن يكاد يجافيه الشعر، ويرتبط بمآس ظاهرة وأخرى مستترة، وهو يمثل نزيفاً متعدد المصادر، لم نفكر كثيراً في كيفية إيقافه.

إن أقرب التعريفات الفلسفية التي تصف الوضع الذي نحن بصدده تكمن في اجتهاد هيغل الذي عرّف الاغتراب بحالة العجز التي يعانيها الإنسان، عندما يفقد القدرة على تقرير مصيره والتأثير في مجرى الأحداث التاريخية، ولو على مستوى أصغر مكونات مجتمعه، وهو تأكيد جرى دعمه من قبل العديد من الفلاسفة الذين رأوا أن وجود الإنسان يكون أصيلاً بقدر ما يختار ويصنع قراراته بنفسه، وأن الاغتراب يعبر عن عجز الإنسان في علاقاته بالمجتمع والمؤسسات والنظام العام، بعد أن تحولت هذه كلها إلى قوة مادية ومعنوية تعمل ضده بدلاً من أن تستعمل لصالحه. وبهذا المفهوم فإن واقعنا السائد هو واقع مغرّب يحيل الشعب، وبخاصة طبقاته وفئاته المحرومة، إلى كائنات عاجزة لا تقوى على مواجهة تحديات العصر، وعلى الرغم من الاتفاق على معظم جوانب الرؤية السابقة في تعريف الاغتراب، فإنه من الواقعي والموضوعي الإشارة إلى أن الجاني والمجني عليه يقعان في دائرة المأزق ذاته، أمّا النتيجة التي هي العجز بأشكاله المختلفة- اقتصادية واجتماعية وتنموية ومعرفية- فإنها تتحول إلى إفراز نوع من الاغتراب الداخلي يدفع إلى اغتراب خارجي، ويرمي بجحافل من المواطنين على شواطئ الغرب وبلدان أخرى، سواء في هجرات شرعية أو غير شرعية، لعلهم يجدون ما يهدئ اغترابهم الداخلي، بالعثور على فرصة للرزق، أو مساحة لتحقيق الذات، أو حاضنة ترعى امتياز الموهوبين منهم، لكن الوصول إلى ذلك جميعاً بات عسير المنال لدى الغالبية العظمى من المندفعين إلى الشاطئ الآخر، لأسباب عديدة بفعل هذا الاغتراب الجديد مختلفاً عما سبقه، وتجعل من نتائجه شيئاً أكثر قسوة وتكلفة حتى إن لواعج الحنين والحسرات في شعر المهجر القديم تبدو مترفة جداً إذا ما قورنت بحرقة المهجر الجديد وآلامه، شرعياً كان أو غير شرعي.

في المهجر الأول أواخر القرن الثامن عشر وإلى أواخر القرن التاسع عشر، اندفعت أعداد من أهل الشام باتجاه الشواطئ الأمريكية الشمالية والجنوبية على السواء، وكانت الظروف الاقتصادية السيئة في فترة الحكم العثماني من أهم الأسباب التي أدت بهؤلاء إلى الهجرة، فالأسباب بين المهجرين أو الاغترابيين متشابهة، لكن الاغتراب الجديد يفترق كثيراً في نتائجه عن الاغتراب الأسبق، لأسباب أولها أن أعداد المندفعين للهجرة باتت هائلة سواء بالطرق الشرعية أو بغيرها، كما أن نوعية المهاجرين أنفسهم ليست كلها مما هو مطلوب في بلاد المهجر الحالي، ويبقى أخيراً أن بلاد المهجر الجديد هذه لم تعد كذلك التي كانت تستقبل المهاجرين السوريين منذ قرن أو قرنين.. وهذا كله رسم ويرسم الآن صورة ليست سوداوية فقط، بل دامية ومريرة أحياناً لما يحدث في المهجر أو الاغتراب الجديد، وهذه الصورة المرعبة تصرخ بالمدى الذي وصل إليه تغلغل الاغتراب في صدور هؤلاء المهاجرين ودفعهم للهجرة، بثمن فادح ليس من الناحية المادية التي تستفيد منها عصابات دولية احترفت تهريب الراغبين في الهجرة إلى أوربا وغيرها، وبإمكانات قاتلة أو احتيال مأسوي، ولكن بمقابل يصل إلى حد فقد حياة كثير من هؤلاء الحالمين بالهجرة، وكأنهم يدخلون في مقامرة يراهنون فيها بحياتهم ذاتها. ولو تركنا الهجرة غير الشرعية جانباً، لهالتنا أحوال المهاجرين الشرعيين خاصة العمال البسطاء، فهؤلاء أصبح الاغتراب بالنسبة إليهم طارداً بقوة، بل نابذاً لأبنائهم.

لم يعد الغرب هو الغرب نفسه الذي استقبل الموجات الأولى من مهاجري بلاد الشام أواخر القرن الثامن عشر حتى أوائل القرن العشرين، فقد صار غرباً أقل تسامحاً، وفي الوقت ذاته بدأت منابع أخرى لهجرات هائلة تتفتح على الغرب، من أوربا الشرقية ومن بعض بلدان آسيا، بشروط يراها أقل مخاطرة وأكثر فائدة، تساهم في طرد المزيد من المهاجرين السوريين.

بيد أن هناك نزيفاً أكثر خطورة، وهو هجرة العقول السورية، إن خسائر سورية بسبب هذه الهجرة هي كبيرة وكبيرة جداً، بلغت حسب بعض الإحصائيات أكثر من مليار دولار قبل ثلاثين عاماً، فما بالنا اليوم؟! إنها أكثر من ذلك بكثير.

وسواء تحدثنا عن المهاجرين المتميزين الذين يشكلون نزيف الأدمغة، أو هؤلاء البسطاء الذين يشكلون نزيف العضلات، فإن الواجب يحتّم العمل لإيقاف هذا النزيف، ويبقى كل ما ذُكر هو مجرد خطوط عامة، يمكن أن يضاف إليها الكثير، فقضية الاغتراب السوري لم تعد ظاهرة محدودة، بل هي متسعة ومتفاقمة الاتساع، ولم يعد ممكناً أخلاقياً وعملياً تركها وشأنها في بحار متلاطمة ولا ضفاف.

 

العدد 1104 - 24/4/2024