ما نحتاج إليه اليوم هو المصارحة وشجاعة القلوب

يونس صالح:

إذا كنا نتفق على أن ثمة أزمة عميقة تعانيها ثقافتنا في الوقت الراهن، فإن أولى طرق العلاج تكمن في وضع اليد على الجرح وتشخيص الواقع بشجاعة، قبل إعطاء جرعات ضرورية من دواء يخلصنا من الداء، وينطلق بنا إلى نهوض جديد.

عندما نتحدث عن حاضرنا، وحاضر ثقافتنا على وجه التخصيص، فإننا ندرك أن الحاضر لم يكن أبداً لحظة في ذاتها، مستقلة عما قبلها، وما بعدها، أي أنها غير مستقلة عن الماضي والمستقبل، فماضينا بعض حاضرنا، والحاضر هو إمكانات المستقبل.

وقد تعودنا في حديثنا عن الثقافة في المنتديات الفكرية، أن نركز على الأعمال الإبداعية والكتابات الفكرية، باعتبار هذا العمل أو ذاك الكتاب ابن لصاحبه، وفي أفضل الأحوال ابن سياقه الاجتماعي، والواقع أن هذا النهج في التعامل مع الثقافة بنظري على قدر كبير من إراحة الضمير من جانب المثقفين، فهو يجنب من جهة الاصطدام بالمؤسسة السائدة، السياسية والاجتماعية والثقافية والدينية والاقتصادية، ويسمح في الوقت ذاته بتوجيه سهام النقد على نحو انتقائي إلى هذه المؤسسة أو تلك، من أجل التنبيه (الخجول) إلى أخطاء فادحة في التعامل مع الحاضر أو تقصير مخجل في الواجب إزاء المستقبل، الذي هو مستقبل الأبناء. لكن هذا النهج يجرد الوعي الثقافي من جوهره التقدمي، أي من قدرته على فهم جدل التفاعل بين الوعي النقدي بماضينا وبحاضرنا، ويحرمه بالتالي من القدرة على استقراء المستقبل.

وعلماء الاجتماع يعرّفون الثقافة بأنها أسلوب حياة، ورغم إيجاز الشديد، فإن هذا التعريف يعني أن الثقافة هي مركب معقد لمزيج يتفاعل يضم فنون المجتمع ومعتقداته وعاداته ومؤسساته وقوانينه وأعرافه وإبداعه وأساطيره وفولكلوره وخرافاته ولغاته وقيمه المختلفة، وبهذا التعريف الرحب تصبح الثقافة هي كل مجالات الحياة، وهو يعني أن القراءة للمشهد الثقافي عندنا يجب أن لا ينفصل عن القراءة للمشاهد السياسية والديمقراطية والاقتصادية والاجتماعية.

ولكي نفهم واقع ثقافة بشكل عام، يتعين علينا أن ندرك جيداً طبيعة العلاقة المعقدة التي تربط بين الثقافة والسلطة. لقد كان العقدان الأولان من القرن الحادي والعشرين من أكثر العقود صخباً وحراكاً وتقلباً في تاريخ الإنسانية، جرى فيهما ظهور نظام عالمي جديد ظن كثيرون أن البشرية تخلصت أخيراً من أزمتها، وأننا نقف على أعتاب حقبة تاريخية جديدة، ولكن نهاية هذين العقدين آذنت بتبدد الكثير من هذه الأحلام والأوهام. فقد انقشعت الآمال التي ارتبطت بوعد النظام العالمي الجديد، ومظاهرات سياتل كشفت زيف الجنة الموعودة التي بشّر بها دعاة اقتصادات السوق والتجارة الحرة، والنزاع بين الشرق والغرب، حل محله صراع بين الشمال والجنوب، والجنوب والجنوب، وبؤر التوتر التي خمدت ظهرت مكانها بؤر جديدة أكثر تفجراً. ومع تفاقم المشاكل العرقية وتفكك الكثير من الدول، واشتداد أزمة الخواء الروحي، وصعود التيارات الفاشستية في أنحاء عدة من العالم، دخل العالم القرن الحادي والعشرين واللايقين هو العنوان، بدءاً من واقع البشرية اليوم وحتى مستقبلها ذاته.

إن العالم كله اليوم يواجه مفترق طرق حادّاً، والتاريخ في مثل هذه المفترقات القاسية يضع الشعوب وثقافتها في حالة من التشوش والقلق تؤثر لامحالة على الفرد والمجتمع.. وهذا ينطبق علينا أيضاً، وتصبح حالة التشوش والقلق هذه أكثر عمقاً عدما نجد أنفسنا مطالبين، وقد دخلنا القرن الحادي والعشرين بحضور فعال في ساحات هذا العصر، الذي لا يعترف إلا بمن يمتلك مفاتيح التعامل معه. ومع دخولنا القرن الحادي والعشرين، تنتاب العالم موجة من التحولات جعلت حياة المجتمعات كلها مختلفة حتى في الجذور، عنها في العصور السابقة، وتحت راية العولمة، ينحسر تأثير الدولة القومية عن عالم السياسة، لصالح الشركات متعددة الجنسيات، من خلال تقييد وظائفها الاقتصادية، وخلق ثقافة كونية تهمش العواطف القومية. غير أن هذه القوى تولد أيضاً رد فعل ثقافياً معاكساً، يعيد بعث هويات أقدم حتى من الدول القومية، لكن الأمر المؤكد أيضاً أن العلم الاجتماعي الذي عرفناه حتى الآن، لايزال عاجزاً من تفسير هذه التغيرات.

وأزمة ثقافتنا تتجلى في تخلف البنية الحضارية لمجتمعنا عن معطيات العصر وقصورها عن التلاؤم المناسب معها، وفي عجز وسائلها عن الدفاع عن ذاتها إزاء أخطار القوى الخارجية من مختلف الأنواع. إن أي رصد لواقعنا لا يمكن إنكار مدى التردي الذي وصلنا إليه، وحجم التحديات المفروضة علينا إذا أردنا النهوض من سباتنا الطويل.. والعمود الفقري لهذا النهوض هو إعادة الديمقراطية إلى قلب حياتنا على مختلف الأصعدة. فقد غابت الديمقراطية عن التطور السياسي والثقافي والاقتصادي والاجتماعي عندنا في العصر الحديث، ولم تنل الأولوية في جدول أعمال معظم- إن لم يكن كل- التيارات الفكرية والسياسية عندنا، بل إن بعض التيارات رفضتها جملة وتفصيلاً بحجج متباينة. ومن أوجه التردي الأخرى: الجمود والتقليدية على الصعيدين الفكري والاجتماعي، وهجوم قيم الريف والبادية على المدينة، وغياب العقلنة والعلمية، والتخلف الاقتصادي، والتعليم التلقيني، والقائمة تطول.

هذا هو واقعنا، وهذه هي حقيقة وضعنا المأسوي على خريطة الحضارة العالمية.. نحن هامشيون ومهمشون، ووضعنا لا ولن يتحسن، بل سيزداد سوءاً، وهنا لن تنفعنا الثروة، فثرواتنا كلها لن تنقلنا من موقعنا الهامشي، وغرورنا باستخدام أحدث منتجات العصر الاستهلاكية لن ينفعنا.. الثروة الحقيقية ليست في امتلاك المال، أو الاستمتاع بالسلع الاستهلاكية، بل هي في النشاط الإنتاجي والإبداعي، وقدرة المجتمع ذاته على التجدد وتجديد ينابيع الإبداع فيه، وامتلاك المعرفة وأدواتها.

لن يحدث النهوض الثقافي المنشود، ما لم يكن هناك نهوض على مختلف الأصعدة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، لكن الأهم من هذا وذاك هو أننا لن نحقق أي نهوض مادامت الديمقراطية غائبة، أو مدجّنة، ولن ننجو من أزمتنا الراهنة دون أن نتبنى الدعوة إلى تنوير العقل. وما أحوجنا في هذه اللحظات الفاصلة من تاريخنا إلى شجاعة القلوب والعقول، إنها دعوة إلى المصارحة ونقد الذات، وإعادة قراءة واقعنا على كل الأصعدة، فعلى ذلك سيتوقف الكثير مما يتعلق بمستقبل الثقافة عندنا، وبالصورة التي ستكون عليها في الألفية الثالثة.

 

العدد 1102 - 03/4/2024