حول التضخم

يونس صالح:

لم يحظَ مصطلح اقتصادي بسعة انتشار وتداول مثل مصطلح التضخم، ولم يتحول مصطلح ما إلى مشجب تلقى عليه كل أسباب الأزمات الاقتصادية والغلاء مثل هذا المصطلح.

إن التضخم ببساطة يعني زيادة في ضخ الأوراق النقدية، مع بقاء تغطيتها ثابتة، أو حتى تراجعها، مما يؤدي إلى تراجع في القيمة الشرائية لهذه الأوراق. وبمعنى آخر إن التضخم هو الزيادة المستمرة في المستوى العام للأسعار، أو التدهور المستمر في القوة الشرائية للعملة.

وهناك رؤيتان متمايزتان للتضخم، الأولى وهي ما تعرف بالرؤية التقليدية: إنها ترى أن التضخم هو كمية كبيرة من النقود تلهث وراء كمية محدودة من السلع والخدمات.. والثانية وهي ما تعرف برؤية كينز، والذي يتفق مع النتيجة ذاتها، ولكنه يقول إن المجتمعات لا تصل إليها إلا بعد أن تصل إلى مرحلة التوظيف الكامل لمواردها ولقواها العاملة.

ويرى الاقتصاديون أن أسباب التضخم تنحصر في حالتين، إما زيادة مفاجئة في الطلب بشكل يفوق القدرة الحقيقية للمجتمع لإنتاج السلع والخدمات، أو بسبب ارتفاع عناصر الإنتاج مثل ارتفاع أسعار السلع الوسيطة وتدهور سعر صرف العملة الوطنية أمام العملات الأجنبية مما يرفع من أثمان الواردات محلياً، وتبعية الاقتصادات الوطنية، وبالتالي حساسيتها للتضخم الخارجي، وتغير الأسعار عالمياً.

وهناك أنواع التضخم وهي التضخم الجامح، وهو أخطر الأنواع، وفيه ترتفع الأسعار كل ساعة، ويستحيل وضع حل له إلا بإبطال النقود وإصدار عملية جديدة يتولى البنك المركزي تحديد قيمتها، وأشهر مثال ذلك مما حدث في ألمانيا عقب الحرب العالمية الأولى، والذي بلغ ذروته في آب عام 1921.

وهناك أيضاً تضخم مكبوت، وتضخم زاحف، وهما أقل حدة من النوع الأول، إلا أنهما يشتركان في قائمة سوداء طويلة من الآثار الاقتصادية والاجتماعية.

ويشهد العالم الآن نوعاً آخراً من التضخم أحدث انقلاباً في المفاهيم الاقتصادية وهو التضخم الانكماشي.

لقد كانت المفاهيم الاقتصادية مستقرة منذ فترة، على أن هناك علاقة بين البطالة والتضخم مفادها (أنه كلما زادت البطالة قل التضخم، وكلما قلت البطالة زاد التضخم) وذلك لأنه في حالة البطالة فإن هناك عمالاً كثيرين لا يتقاضون أجوراً، وبالتالي لا يدفعونها إلى السوق، فتظل السلع والخدمات أكثر من النقود، ومع قلة البطالة فإن هناك أجوراً أكثر مما يحدث خللاً بين كمية النقود والمتاح من السلع والخدمات، إلا أن هذا المفهوم انقلب تماماً، فقد زادت نسبة البطالة، واستمر معدلها في ازدياد عاماً إثر عام بينما ازداد التضخم.

وللتضخم نتائج اجتماعية واقتصادية كثيرة، كتغيير ثروة الفئة الوسطى ومدخراتها التي سوف تتآكل في محاولة بحثية للحفاظ على مستوى ثابت للمعيشة، وضعف القدرة على الادخار، لأن فائض الدخل الذي كان يوجه للمدخرات سيتقلص أمام معدل زيادة الأسعار الذي كان يوجه للمدخرات سيتقلص أمام معدل زيادة الأسعار المستمر، ويضاف إلى هذا نشوء ظاهرة الهرب من النقود وذلك لتدهور قيمتها المستمر، مما يدفع الناس إلى توجيه مدخراتهم لشراء العقارات والأراضي والذهب والقطع النادر، الأمر الذي يخلق جواً من المضاربة، ويعطي سوق العقارات ازدهاراً ليس حقيقياً، ويرفع أثمان العقارات إلى مستوى غير طبيعي.

ولا يمكن علاج التضخم من خلال رؤية نقدية فقط، أو النظر إليه كحالة يمكن علاجها بإصلاح مالي، رغم أن بعض الاتجاهات الاقتصادية ترى ذلك، إلا أن العملية وواقع الحال ينبئان بأن هذه النظرة تزيد الأمر تفاقماً، وأن أفضل سبل الإصلاح تتركز في إعادة النظر في السياسات الاقتصادية كلها، لأن التضخم في النهاية ليس مجرد أوراق نقود كثيرة، بقدر ما هو تعبير عن اختلالات في هياكل الاقتصاد الوطني وقدرته على الإنتاج.

 

العدد 1104 - 24/4/2024