الأثر الاجتماعي للمال
عهد بيرقدار:
تميز البشر عبر الزمن بالمشاركة وتبادل الهدايا والمنتجات بين الأفراد والجماعات المختلفة بهدف إنشاء علاقات اجتماعية جديدة. فالمقايضة سمة تطورت مع تطور المجتمعات ونشأت لها آثار اجتماعية عديدة. ذلك أن المقايضة بدأت باستلاف ما يحتاج إليه المرء من صديقه أو جاره مقابل تقديم ما يمتلكه أو ينتجه هو للطرف الآخر. ومع تطور شكل تبادل البضائع هذا ونشوء احتكارات للإنتاج وتصنيع المال بصيغته الورقية حديثاً وقيمته الذهبية قديماً تحول نمط العلاقات بين الأفراد والمجتمعات بشكل كبير.
كيف يمكن للمال أن يؤثر على العلاقات الاجتماعية؟ وما هو دوره في تطوير ثقافة الأفراد ومعرفتهم؟ وكيف ينظر علماء الاجتماع إلى علاقة المال والمجتمع من وجهة نظر ثقافية؟ فبدارسة العلاقات الاجتماعية التي يخلقها التبادل الاقتصادي، نجد الكثير من المفكرين الاجتماعيين الذين تحدثوا عن أفكارٍ وتوجهاتٍ مختلفة. ذلك أنَّ البعض منهم يرى أنَّ المال بحد ذاته ليس شيئا خاصاً، إنما هو النمط الذي يخلق به الناس روابطهم وعلاقاتهم معاً، وهو الذي يخلق النشاط والعلاقات المستمرة لكل من يستخدمه، في حين يرى البعض الآخر أنَّ المال عبارة عن اغتراب ثقافي للأفراد يبقيهم منشغلين عن النطاق الاجتماعي الذي يعيشون ضمنه وقضاياه العديدة.
سنوضح في هذه المقالة بعض وجهات النظر المختلفة تلك وسنتعرف أكثر عن تأثير نمط التبادل الأول للمنتجات على المجتمع، وكيف تطور هذا التأثير في ظل نشوء رأس المال.
تبادل السلع كوسيلة لإنتاج علاقات اجتماعية وزيادة الترابط البشري:
عند التفكير في نمط التبادل التجاري الأول لا يسعنا إلا أن نستذكر كتاب الهبة للأنثرولوجي الفرنسي مارسيل موس، الذي يتحدث ضمن صفحاته عن الهدية بوصفها وسيلة بدائية مهمة في تكوين وتوطيد العلاقات الاجتماعية. ذلك أن الجماعات المختلفة كانت تعتمد على الهدايا لتمكين العلاقات فيما بينها، أو حتى لإنشاء هدنة من الحروب أو خوفاً من اندلاع الحروب. ولم تكن الهدية وتبادل الهبات مقتصراً على القيم والمنتجات المادية فحسب، بل شمل أنواعاً كثيرة مثل تبادل النساء لإنشاء علاقات أسرية والزواج، وذلك على سبيل المثال لا الحصر.
لم يكن ينظر إلى هذا النمط من تبادل الهدية كونه قيمة اقتصادية بقدر ما كان يعتبر قيمة اجتماعية، ذلك أن الهدية لم تكن فرضاً على من يقدمها، لكنها طقس اجتماعي يلتزم العديد به.
يمكننا أن نرى إلى يومنا هذا أن الهدية ملزمة بمثيلها أو ما يفوقها في حياتنا الاجتماعية. فعند تقديم إحدى الجهات لهدية ما يُفرض على الطرف الثاني ردها، وهذا يُعتبر بمثابة التزام اجتماعي غير مكتوب ولا موثق لكنه متعارف عليه لدى الجميع. ذلك أنَّ الهدية فرض اجتماعي متعارف عليه ولكنه ليس إلزامياً. فإن لم تُرد الهدية بما يماثلها فإن العلاقة الاجتماعية التي تُبنى مهددة بعدم الاستمرار. فردّ الهدية يعتبر صلة بشرية وإن لم يرد المُعطى هديته بشيء مثلها أو أثقل منها فيعتبر هذا بمثابة قطع للصلة أو حتى إنذاراً بالخلافات والحروب.
طبعاً مما لا شك به أن الهدية نفسها تكلف من يصنعها قيمة اقتصادية، لكنَّ الأشخاص قاموا بتحويلها إلى قيمة اجتماعية وعاطفية لخلق هذه العلاقات المفروضة فيما بينهم. لذلك تحمل الهدية التي تعتبر قيمة مادية واجتماعية في الوقت نفسه مفاهيم متضاربة من التكافؤ والتفوق الاجتماعي معاً. ففي حين أنَّ تقديم الهدية يُعتبر تقاسماً لما يملكه الهادي من قيمة مادية مع المُهدى إليه، إلا أنه يبقى بمثابة دين على من يجب عليه رد الهدية وتفوق اجتماعي عن المُهدى إليه إلى أن يقوم برد الهدية. وبهذا يمكننا أن نقول إن الهدية (الهبة) كانت تجمع بين التقارب والتنافر داخل المجتمعات وبين الأفراد لأن فيها تكافؤاً مزعوماً وتفوقاً مفروضاً. هذا النمط من الهبة كان مميزاً لأصحاب السطوة والقرار والمُلك في المجتمعات الأولى، وكنوع في توطيد سطوتهم لتنظيم العلاقات الاجتماعية تحت سيطرتهم.
تبادل السلع كوسيلة لتحقيق المصلحة الشخصية:
يعتقد بعض المفكرين أنَّ المجتمعات قائمة أساساً على المصالح الشخصية لأفرادها، وذلك ليس على اعتبار أنَّ جميع الأفراد يتعاملون بعضهم مع البعض الآخر بأنانية، ولكن بافتراض أنه ينبغي إدراك أنَّ الجميع سيضع مصلحته الشخصية في الحسبان. فمن الحكمة والمنطق أن يستوعب المرء أنَّ حصوله على الطعام والشراب ومستلزمات الحياة التي يُنتجها أفراد آخرون لم يأتِ من باب التعامل الإنساني مع الآخر فحسب إنما من منطلق المصلحة الشخصية أيضاً، فعل سبيل المثال ينتج أحد الأفراد الجبن في المقابل ينتج جاره العسل، وبهذا يعتبر تبادل الجبن والعسل بينهما شكلاً من أشكال تبادل السلع التي تحمل في طياتها المصلحة الشخصية والرغبة في تناول المنتج الآخر الذي لا يصنعه أحدهما. يعتبر آدم سيمث أنه في هذا النمط من تبادل السلع سيتلقى كل شخص ما يحتاجه تبعاً للميل البشري للتبادل، وسيكون سبباً من أسباب التناغم والرخاء في المجتمعات. وعند ربط المنفعة الاجتماعية بالتبادل الاقتصادي للسلع بين الأفراد، فإن هذا التبادل سيحقق المنفعة ليس لهذين الشخصين فقط، بل سيتحول إلى نظام منفعة عالمية بين الدول. ذلك أنَّ الدولة حلت محل الأفراد في الإنتاج وتحقيق حاجات المواطنين، وبهذا احتكرت نسبة كبيرة من الأسواق والاقتصاد والمنفعة التي تغير شكلها من منفعة فردية تربط الأفراد ببعضهم إلى منفعة دولية تجعل الأفراد مرتبطين بدولهم. ذلك أن الإنتاج أصبح مُلكاً للدول وبعض رؤوس الأموال، وبهذا يصبح المنتج الوجيد الذي يستطيع الفرد أن يبادله مع ما يحتاجه هو عمله. وهذا سيأخذنا إلى الفكرة التالية من النص.
تبادل السلع بوصفة اغتراباً:
ما يُقصد بالاغتراب هنا هو بُعد الأفراد عن قضايا المجتمع الذي ينتمون له وذلك لانشغالهم بتقديم المنتج الوحيد الذين يملكونه وهو (قوة عملهم) مقابل تحصيل المال لتحقيق احتياجاتهم المختلفة. ومن أشهر المفكرين الذين تحدثوا عن الاغتراب في ظل هيمنة رأس المال على الإنتاج والاقتصاد الألماني: كارل ماركس. ذلك أنَّ نمط التبادل الأول للسلع الذي كان يهدف إلى خلق علاقات اجتماعية بين الأفراد ضمن المجتمعات تحول إلى احتكار، فقد سيطرت جهات قليلة على جميع أنواع السلع وبدأت بإنتاجها اعتماداً على الأفراد الكُثر الذين لا يملكون وسائل إنتاج. حيث تُصبح السلعة أغلى وأعلى قيمة من العمل الذي يقدمه الفرد للحصول عليها.
هذا الانشغال عن العلاقات الاجتماعية في سبيل تحقيق الحاجات لن يقتصر فقط على بنية المجتمع، بل على وعي الأفراد أنفسهم، ذلك أنه تبعاً لماركس فإنَّ النشاط والمكانة الاجتماعية هي ما تحدد وعي الفرد وليس وعيه هو ما يحدد مكانته الاجتماعية. وبهذا ينفصل الفرد الذي لا يمتلك سوى قوة عمله عن المجتمع بغية تحقيق الحد الأدنى من احتياجاته وبفعل ضغط رأس المال عليه. سيتحول التبادل البسيط للسلع إلى امتلاك مهيب لرأس المال، وسيتحول المجتمع إلى طبقات فقراء لا يملكون قوة إنتاجية غير عملهم والقليل جداً من المال وأغنياء قاموا باحتكار أغلب السلع والمنتجات وامتلكوا الكثير من المال.
هذا يعني أنه كلما ازدهر الاقتصاد المحُتكر وزاد، كبر رأس المال الانتهازي. أي أصبح الأفراد بحاجة إلى البقاء بشكل أكبر في العمل وإمضاء وقت أكثر في إنتاج السلع التي غالباً ما يجهلون شكلها النهائي. وعلى انشغالهم الإنتاجي هذا وكثافة الوقت المطلوب منهم للعمل يصبح لديهم اغتراب عن الواقع الاجتماعي ومشاكلهم وهموهم وإنسانيتهم.
كانت هذه مقالة مختصرة لأشهر الآراء الاجتماعية التي ناقشت أثر المال الثقافي والاجتماعي. فهل تعتقد أنَّ حاجتنا للمال هي المحرك الأول لحياتنا، وأنَّ السعي وراء تحصيله يجبرنا على الابتعاد عن قضايا مجتمعنا؟ وهل علاقاتنا الاجتماعية التي ترتبط بالعمل نابعة عن مصلحة الشخصية؟