لي ما لكَ.. وعليَّ ما عليك!

إيناس ونوس:

ينشأ الإنسان على مجموعة من القيم والمفاهيم تشكّل فيما بعد منظومته القيمية والأخلاقية في المجتمع والمكان اللذين يعيش فيهما، انطلاقاً من الأسرة ـــــــ اللبنة الأولى في تشكيل وتكوين شخصية الإنسان ـــــــــــ، مروراً بالمدرسة والجامعة والحي بيئة العمل ليصل في نهاية المطاف إلى الشخصية المتكاملة التي بلورتها كل تلك المراحل.

هذه القيم والمعايير قابلة للتعديل والتطوير، للإضافة أو التناسي وربما الحذف كلياً، اعتماداً على تطور الطبيعة البشرية من جهة بشكل عام، وعلى نمو الشخصية المستقلة بشكل خاص، ففي حين أن بعض الأفكار التي تربى عليها الإنسان بأمسّ الحاجة إلى تعديلها لتكون أكثر مرونة وانسجاماً مع الواقع والحياة، نجد أن بعضها الآخر لا يمكن المساس به أبداً لأنه يشكل قيمة أخلاقية كبرى وليس بالإمكان التخلي عنها كلياً.

إحدى تلك المفاهيم القيمية التي من المفترض أن نربي أنفسنا وأطفالنا عليها ما يسمى مفهوم الاعتذار، والقائم أساساً على الاعتراف بكيان الآخر وحريته ووجوده، بالتوازي مع الأنا تماماً دون زيادة أو نقصان، وهو مفهوم يحتاج إلى بذل الكثير من الجهد وامتلاك وعي كبير عند الشخص ليستطيع أن يتعامل مع الآخر كما يرغب أن يكون التعامل معه من قبل ذاك الآخر.

* فلكي نتمكن من تعليم أطفالنا أن الاعتذار عن خطأ ارتكبوه وعدم تكراره هو عامل قوة في الشخصية، لا بد من أن نمتلك نحن المربين أنفسنا هذه القناعة عبر الممارسة الفعلية والبعيدة عن التنظير والكلام الشفهي فقط، من خلال اعتذارنا لهم عن تقصير معين في حال حدوثه بغير إرادة منا أو عن تأخير في تنفيذ وعود قطعناها لهم، ومن ثم تفسير الأسباب ومحاولة عدم تكرارها.

* لكي نتمكن من بناء شخصية أقرب ما تكون إلى العدل والمنطق، علينا أن نبدأ منذ الصغر بأن نترك هامشاً لهذه الشخصية متوازياً مع الهامش الذي نريده لنا أنفسنا نحن الكبار.

* لكي نعطي المجال للآخر أن يستوعبنا في لحظات ألمنا وتعبنا وانكسارنا، وكي لا ندخل في متاهات اللوم والعتب، علينا أن نعطيه المجال ذاته ليعبر لنا عما بداخله، فنستوعبه ونترك له الحرية في هذه اللحظات على أقل تقدير، إن لم نتمكن من دعمه ومساندته.

* لكي نمتكن من تفعيل ثقافة الاعتذار في البيت والمجتمع المُصغّر انطلاقاً للمجتمع الأكبر علينا بتقبل الآخر والابتعاد بعض الشيء عن أنانيتنا التي فطرنا عليها، فكل منا بحاجة إلى مساحة ذاتية مستقلة بعيداً عن الآخر أياً تكن علاقتنا به وعلاقته بنا، وهذا بالذات يحتاج إلى بذل مجهود مخلص من أعماقنا لأنه يجابه منظومة قيمية تربى عليها مجتمعنا أن في الاعتذار ضعفاً ومهانة، وبأقلِّ تقدير فيه تقليل من محبتنا للآخر ومن مكانته لدينا، الأمر الذي يُبدّد علاقات ظنناها مبنية على أسس متينة بلحظة واحدة ودونما سابق إنذار، ما يوحي بهشاشة علاقاتنا وسطحيتها، ويؤكد فشل تلك المنظومة وقيمها.

فلننطلق من أنفسنا، من بيتنا ومن عوائلنا، ولنضع نصب أعيننا أننا مثلنا مثل الآخر، لنا الحق بما يحق له، وعلينا الواجب الذي يقع عليه، حتى وإن كان كبيراً ثمن هذه القناعة التي ستصبح منهج حياة لاحقاً، فقد حان وقت امتلاكنا له في ظلّ هذه الظروف المعيشية والحياتية الصعبة والتي لا ترحم أحداً، علّنا نُخفّف من حدّتها علينا وعلى الآخر، ونساعد في تكوين بنية مجتمعية مُتجدّدة قابلة للحياة أكثر من ذي قبل.

العدد 1104 - 24/4/2024