قل لي أين تعمل.. أقل لك ما نوع المجتمع

يونس صالح:

قلي لي أين تعمل، أقل لك ما نوع المجتمع الذي تنتمي إليه، وما درجة تقدمه، ذلك أن خريطة العمل، حسبما يقول التاريخ الاقتصادي والاجتماعي للأمم، كانت دائماً انعكاساً لحال هذا المجتمع أو ذاك.

قديماً كان العمل اليدوي هو السائد، وكان العمل الذهني هو الأقل، وقديماً كانت الزراعة والقليل من العمل الحرفي، فلما جاءت الآلة عرف الإنسان عصر الصناعة، ولفترة طويلة كان الاقتصاد يعتمد على ساقين بالدرجة الأولى هما الزراعة والصناعة، رغم وجود أوجه أخرى للنشاط. وفي الحالتين: حال الاقتصاد الزراعي، وحال الاقتصاد الصناعي كان إنتاج السلع هو الهدف، وكان الإنتاج المادي هو الشغل الشاغل الذي تحرص عليه مختلف البلدان وتفاخر به. كما كان كل تطور فيه يعني انقلاباً اجتماعياً واقتصادياً.. وهو ما عبر عنه على سبيل المثال شارلي شابلن، الذي أجاد تصوير أثر الآلة على الإنسان، وكيف قاومت الطبقة العاملة ذلك الغول (الآلي) الذي يختزل العمل البشري ويزيد من البطالة. ولو أن شابلن قد عاد اليوم لقال شيئاً مختلفاً. لقد كانت هناك باستمرار قضية التطور، لكن الجديد والمثير طوال نصف قرن مضى هو اتساع ما يسمى اقتصاد الخدمات، ورغم أنه لم يبدأ من الصفر، فإن تزايد أهميته كانت نقطة فارقة في تاريخ البشرية حتى بتنا نسأل: أي نوع من الحياة يوفره ذلك النمط الذي يستهلك فيه الإنسان- بل وينتج قدراً أكبر من خدمات الصحة والتعليم والسياحة وتجارة المال.

وبطبيعة الحال فإن استهلاك الكرة الأرضية التي باتت تضم ما يزيد على سبعة مليارات من البشر، لم يتراجع في جانبه المادي.

ما الذي جرى إذاً؟

في علم الاقتصاد كان السؤال تاريخياً يدور حول الإنتاج والاستهلاك، فنمط الإنتاج يحدد نمط الاستهلاك، كما أن العكس صحيح، لأن الطلب قد يخلق العرض ويحفزه.

ولكن، وقريباً من هذه الدائرة فإن هناك مؤشراً آخر حول نوع الاقتصاد، ونوع المجتمع، ومستوى تقدمه: مؤشر العمل، أو اتجاهات سوق العمل، وهل تكون النسبة الأكبر لمن يعملون في الزراعة أم الصناعة أم الخدمات؟ تشير تقارير منظمة العمل الدولية أن المشتغلين بالصناعة في تراجع مستمر، فإذا كانت نسبتهم 34٪ في ألمانيا عام 1980، فلقد أصبحت عام 2006 نحو 24٪ وتقل النسبة عن ذلك في الوقت الحالي. أما في الولايات المتحدة فكانت النسبة 22٪ عام 1980 فباتت 15٪ عام 2006، وتقل عن ذلك حالياً و…. وهكذا في مختلف الدول الصناعية، ولقد كان التراجع لصالح قطاع الخدمات، وتقفز نسبته في بلدان مثل كندا وفرنسا والولايات المتحدة وغيرها إلى حدود 70٪، وتهبط إلى 65٪ في بلدان مثل ألمانيا واليابان وغيرهما، وفي الوقت نفسه فقد أصبح نصيب الاشتغال بالزراعة في البلدان الصناعية أقل من 5٪ من عدد المشتغلين، وهذه النسبة تهبط إلى أقل من 2٪ في الولايات المتحدة وإنكلترا.

أجل، لقد انكمش الاشتغال بالزراعة، لكن الإنتاج الزراعي لم ينكمش، ذلك أن الزراعة باتت في كثير من أنحاء العالم، صناعة كبرى يقل فيها عدد الرجال، وتزيد فيها الآلات: زرعاً وحرثاً وحصداً، وكذلك فإن عدد المشتغلين بالصناعة في تراجع مستمر بسبب التقدم التكنولوجي والاعتماد على العقول الإلكترونية.. بينما كان اتساع الطبقة العاملة الصناعية في القرن التاسع عشر والقرن العشرين أداة تحول اجتماعي نشأ نفوذ النقابات والأحزاب العمالية، ونشأت معه الأفكار الاشتراكية والماركسية، بينما كان ذلك هو الوضع، فقد أصبحنا أمام التحول الكبير: العامل الزراعي يقترب من العامل الصناعي والعامل الصناعي يصبح فنياً وخبيراً لا ينقصه غير مكتب صغير ليصبح بيروقراطياً من ذوي الياقات البيضاء. إنه عالم الأزرار تتغير معه بنية الطبقة العاملة وتوجهاتها، وهكذا حدثت التطورات التي جعلت الإنتاج السلعي، زراعياً أو صناعياً ليس بحاجة إلى عمالة كثيفة، بينما اتسع اقتصاد الخدمات والاقتصاد المعرفي فاستوعب المزيد والمزيد، ولم يكن ذلك مجرد تعبير عن التطور التكنولوجي فقط، لكنه كان أيضاً تعبيراً عن التطور في مستوى المعيشة، وما يستهلكه الفرد من خدمات، وهو ما نلمسه إذا حاولنا تحليل ميزانية الأسرة، التي يحتل فيها الغذاء النسبة الأعلى في المجتمعات الفقيرة، بينما تحتل بنود أخرى هذه النسبة في مجتمعات الوفرة، وهي بنود مستحدثة مثلما هو الحال في الإنفاق على الاتصالات والخدمات الإعلامية والمعرفية والكمبيوتر والمستوى الرفيع من الخدمة الصحية والتعليمية، بل إن هناك مؤشراً للسياحة في العالم الذي أصبح واسع الانتشار، وحين نتحدث عن سوق الخدمات، فلابد أن نتوقف أمام ذلك التحول من اقتصاد سلعي إلى اقتصاد رمزي، ومن أسواق محلية إلى أسواق عالمية تتحكم فيها البورصات، ويجري التعامل فيها بإشارة تلفونية أو أمر على شبكة الإنترنت.

ويبقى سؤال مهم: هل يأتي هذا التطور في توجهات الاقتصاد وسوق العمل لصالح عمالة أكثر أم عمالة أقل؟ وهل يساعد اندفاع الإنسان لاستهلاك خدمات أوفر على مواجهة مشكلة البطالة التي باتت تؤرق الجميع؟

لقد قتل التطور التقني والعلمي الكثير من فرص العمل، وكان ذلك عنصراً رئيسياً في الاتجاه نحو العولمة، التي يجد فيها الكبار- ومن خلال الحدود المفتوحة- فرصاً أوسع في الأسواق الخارجية.

ولكن، وفي الوقت نفسه، فإن مشكلة التشغيل ظلت تؤرق الجميع، فعاد الاهتمام بالصناعات الصغيرة، وزاد الاهتمام باقتصاد خدمات يستوعب نسبة أكبر من اليد العاملة، إلا أن هذه المعضلة لم تحل إلى الآن.

أعود إلى البداية (قل لي أين تعمل.. وماذا تعمل.. أقل لك في أي نوع من المجتمعات تعيش)! إن هذه المقولة صحيحة، سواء كنا نتحدث عن مجتمعات الوفرة أو مجتمعات الندرة، المجتمعات الصناعية المتقدمة أو المجتمعات الزراعية المتخلفة.

 

العدد 1104 - 24/4/2024