الغرب يستعيد (ماركس) مجدداً.. لماذا؟ .. الألماني (توماس شتاينفلد) يبحث عما تبقّى من راهنية (المنظّر) في المئوية الثانية لولادته

رائد حامد:

صدور كتاب جديد يتحدث عن كارل ماركس في عام 2018 يفترض أن ثمة راهنيةً ما لا تزال تلحّ على المفكرين والمثقفين لإعادة قراءة ماركس، على الرغم من أن كثيرين كانوا يعتقدون طوال العقود الماضية أنه جرى الحكم على ماركس بالنسيان بعد انهيار الاتحاد السوفيتي، وأن التاريخ قد دحض كارل ماركس، إذ لم يعد هناك تقريباً من يحلم في وقتنا الحاضر بإمكانية قيام الثورة الاشتراكية.

هذا الكتاب الجديد الذي نحن بصدد الحديث عنه هنا هو: (سيد الأشباح_ كارل ماركس قراءة معاصرة) للألماني توماس شتاينفلد، صدر بالألمانية في عام 2018، وترجمه إلى العربية الناقد والأديب السوري المعروف د. نبيل الحفار، في عام 2020(1).

الحقيقة أن كتاب (شتاينفلد) لم يكن الوحيد في فورة الحديث المتجدد عن ماركس، ففي العقدين الماضيين ثمة عشرات الكتب قد صدرت، ومئات المقالات قد كُتبت عن كارل ماركس في العالم الغربي الذي لم تكن تحكمه أفكار ماركس الاشتراكية.

ربما تكون الذكرى المئوية الثانية لميلاد ماركس التي حلت في 5 أيار 2018 هي المناسبة التي حرّكت عشرات الأقلام من مفكرين وفلاسفة وكتاب في الغرب للكتابة مجدّداً عن ماركس، لكن ثمة محرّضات ودوافع أخرى قوية تعود للسنوات القريبة الماضية، دفعت لإعادة تذكّر ماركس واسترجاع أفكاره في العالم الغربي، بدءاً من أزمة أسواق شرقي آسيا التي ضربت دول النمور في عام 1997، ثم أزمة الرهن العقاري في الولايات المتحدة في عام 2006، وأخيراً الانهيار الشهير لأسواق المال العالمية في عام 2008.

هنا يجب ألا ننسى أن ماركس كان قد تنبأ بالاقتصاد الدولي المعولم وما سيولده من أزمات اقتصادية ونزاعات عنيفة ومظالم اجتماعية.

إريك هوبسباوم الأستاذ في جامعة لندن، والمؤرخ الشهير صاحب الكتاب الشهير بأجزائه الثلاثة عن القرن التاسع عشر (قرن ماركس) يقول مستغرباً: (إن الرأسماليين (أعداء ماركس) هم أكثر من غيرهم الذين يقومون اليوم بإعادة اكتشاف ماركس!)، ويتابع: (إن جورج سوروس (الرأسمالي الدولي الأشهر) يقرأ الآن ماركس كما ذكر لي).

ويخلص هوبسباوم إلى القول: (أزمة النظام الرأسمالي استدعت إعادة قراءة ماركس مجدداً، ولأنه لا يمكن تغيير العالم من دون فهمه، لذلك يجب أن يُقرأ ماركس الذي سيظل دليلاً لفهم هذا العالم والمشاكل التي تنشأ فيه، ويجب أن نقرأ ماركس أيضاً لأن العالم الذي نعيش فيه اليوم لا يمكن فهمه أيضاً من غير معرفة التأثير الذي مارسته كتابات ماركس على القرن العشرين).

 

كارل ماركس الصحفي

يشير شتاينفلد إلى أن ثمة صورة أخرى لماركس تختفي تحت الصورة المعروفة له كمناضل، وهي صورة المفكر، ولذلك يقول: إن كتابه هذا هو محاولة في إعادة قراءة أفكار ماركس، لكنه يصرّ أيضاً على تظهير صورة ثالثة موازية لماركس قلّما أعطيت حقّها في الكتابة عنه وعن شخصيته، إنها صورة كارل ماركس (الصحفي).

يقول شتاينفلد: (في كيان ماركس كما في عمله يمتزج شخصان على نحو مشوّش، شخص المنظّر وشخص الثوري، لا يذوبان أحدهما في الآخر: الأول يفهم الثورة كنتيجة ضرورية لتطورات تاريخية، والثاني يرى أن على الإنسان تنفيذ الثورة بالقوة وفوراً إذا كان ذلك ممكناً، الأول يحلّل والثاني ينادي إلى العمل، وعند ماركس يحشر نفسه في هذا التقابل شخص ثالث: إنه الصحفي الكاتب الذي يريد أن يثبت نفسه في فوضى الأخبار، ويبقى في حالة اشتباك مع الرأي العام).

ولماركس تاريخٌ طويل مع الصحافة، فالصحافة هي العمل الأول الذي مارسه، بعد أن أخفق في أن يصبح أستاذاً جامعياً.

في عام 1842 عمل ماركس في (الجريدة الرينانية للسياسة والتجارة والصناعة)، لمدة سنة محرّراً ثم رئيساً للتحرير، وهي جريدة معارضة كانت تصدر في مدينة كولونيا، أسّسها البرجوازيون الراديكاليون في ولاية ريناني (شمال الراين) الألمانية البروسية.

وفي عام 1843 عمل في مجلة (الحولية الألمانية الفرنسية) وهي مجلة ألمانية كانت تصدر في باريس. وفي عام 1848 عاد رئيساً لتحرير (الجريدة الرينانية الجديدة) في كولونيا، وبعد سنة تركها بعد إبعاده عن بروسيا حيث حوكمت الجريدة وأغلقت.

وفي لندن بدءاً من عام 1851 عمل مراسلاً أجنبياً لجريدة (نيويورك تريبيون) الأمريكية لمدة عشر سنوات، وكتب فيها مئات المقالات في موضوعات مختلفة: عن ارتفاع سعر الذرة، والانتخابات، والانتفاضات، والثورات، وحرب الأفيون، والحرب الأهلية الأمريكية، والاستعمار، والتجارة الحرة، وحروب بريطانيا مع الصين، واضطرابات أوربا، والمقاومة في الهند.

وقد جُمعت مقالاته الخمسمئة التي نشرت في هذه الصحيفة، فملأت سبعة مجلدات من أصل مجموع مؤلفاته البالغة خمسين مجلداً، وهذا الحجم يبيّن أهمية (الخطاب) في كتابات ماركس وفكره، كما يقول النقاد.

كما كتب ماركس لصحيفة (الشعب) البريطانية المرتبطة بالحركة الشارترية. وكان قارئاً نهماً لصحيفة (الإيكونومست) لدرجة أنه راجع كل أعدادها السابقة المؤرشفة في المكتبات العامة، والتي تمتد لسنوات، ليتمكّن من الاقتصاد السياسي.

يقول الصحفي الأمريكي جيمس ليد بيتر مؤلف كتاب (برقيات لصحيفة نيويورك تريبيون_ مختارات لكارل ماركس): كتابات ماركس في الصحافة لم تحوِ تقارير أو رواية للأحداث أو مقابلات مع مصادر رسمية كما هو معتاد في الصحافة، إنما كانت عبارة عن مقالات نقدية، وإلى جانب ذلك كانت مواكبة للأحداث.

كان ماركس ينتقي حدثاً من الأخبار ويدقق فيه حتى يهضمه ويستوعبه، ثم يطرح أسئلة أو قضايا أساسية في السياسة والاقتصاد، وبناء عليه يعبّر عن رأيه. وإن مقالاته الصحفية تلك هي أقرب ما تكون إلى (صحافة الرأي) في أيامنا. ويقول ليد بيتر: هذه المقالات حتمت على أي باحث وناقد أن يصنف ماركس ككاتب وصحافي محترف، إلى جانب كونه منظّراً اقتصادياً ومفكراً سياسياً ومؤرخاً وفيلسوفاً.

يقول شتاينفلد: ثمة صورة ارتسمت عن ماركس في بداياته هي صورة الصحفي الشرس والعنيف، وفي رواية بلزاك (الوجه الآخر لتاريخ عصرنا) ذات الجزأين، التي أصدرها عام 1848 غداة ظهور البيان الشيوعي، ثمة شخصية رئيسية هي: (غودفري) شخصية الصحفي السابق العنيف والشرس الذي ينتمي إلى جمعية سرية اسمها (أخوّة المساواة) بعدها يصبح غودفري رئيساً للعمال ومؤمناً بتعاليم الشيوعية.

يقول شتاينفلد: إن غودفري هذا ما هو إلا ماركس نفسه، وأخوّة المساواة تلك ما هي إلا (رابطة الشيوعيين) التي انتسب إليها ماركس وأنجلز.

ويقول أيضاً: إن مهنة الصحافة التي مارسها ماركس سنوات طويلة تركت أثراً عميقاً في لغته وخطابه وحتى في تكتيك أفكاره، وإن الكثير من استعاراته نتجت عن اهتمامه الصحفي في أن يكون مقروءاً وواضحاً، ولذلك، كما يقول شتاينفلد، يختلط النقاش العلمي بأسلوب الريبورتاج في كثير من كتاباته، وحتى في البيان الشيوعي أدخل ماركس تعبيرات مجازية من الرواية والصحافة. ويقول مؤلف (سيد الأشباح) ملخصاً: إن استخدام الأساليب الأدبية والصحفية في بحث نظري يمنح الناقد تفوقاً لغوياً، لكنه يضعفه كمفكّر.

لكن شتاينفلد يعود فيقول: لم يعمل كارل ماركس في الصحافة لأنه كان بحاجة إلى المال فقط، أو لأنه أراد أن يثبت آراءه للآخرين، إنما كي يمتلك تصوراً عن الرأي العام الذي يدافع عنه ويلتزم به، ولذلك كان ماركس يحترم الصحافة ويقدرها جيداً.

في عام 1848 تكلّم ماركس عن الصحافة فيما كتبه عن (برومير الثامن عشر للويس بونابرت)، فوصف الصحافة باعتبارها الحارس العام، وفاضح الحكام الذي لا يكلّ، والعين اليقظة في كل مكان، والفم المفتوح دفاعاً عن فكر الشعب الغيور على حريته.

 

ماركس.. المثقف القارئ

يقول شتاينفلد: بعد اضطرار ماركس إلى مغادرة باريس في تموز عام 1849 بأمر من الحكومة الفرنسية منفياً، استقرّ في لندن، هناك توضحت صورة ماركس كباحث ومثقف كبير. في عام 1850 حصل على بطاقة مستخدم أو مشترك في مكتبة المتحف البريطاني، تتيح له حقّ الارتياد اليومي كباحث في أعظم مكتبة في عصره، ولم يكن ذلك سهلاً آنذاك ومتاحاً إلا للقليلين، ما أهّله للمطالعة الطويلة التي امتدت سنوات في قاعات المكتبة.

مكتبة المتحف البريطاني كان فيها آنذاك 400 ألف كتاب، وكانت تعدّ من أكبر مكتبات العالم. وبعد عشرين سنة عندما نشر ماركس (رأس المال)، أصبح عدد تلك الكتب مليون كتاب. قرأ ماركس هناك جميع الطبعات القديمة من صحيفة الإيكونومست، والتي شملت عشر سنوات، على الأقل، كما قرأ قرابة (1500) كتاب من الكتب الضخمة التي تحوي مجلدات عدة. إضافة إلى الكتب العلمية والاقتصادية قرأ ماركس أعمالاً أدبية لشكسبير وميلتون وديفو وديكنز.

كان ماركس يجلس في قاعات المكتبة من التاسعة صباحاً حتى السابعة مساء، وقد أمضى في القاعة المخصصة له ثلاثاً وثلاثين سنة، نتج عن هذه السنوات الطويلة من المطالعة آلاف الصفحات من الملخصات التي ثبّت فيها ما كان يراه جديراً بالملاحظة.

كان ماركس يعمل على مشاريعه البحثية إلى حد الإفراط، كان دؤوباً إلى حد الإرهاق، وكان يقول: (عليّ أن أستغلّ كلّ لحظة صالحة للعمل لأنهي عملي الذي ضحّيت من أجله بسعادة حياتي وصحتي وعائلتي).

عندما كان ماركس على فراش الموت كان يضع المجلدين الثاني والثالث من رأس المال بين يدي صديقه أنجلز ليكمل المهمة. لقد كرّس ماركس نفسه وروحه وعقله ووقته من أجل قضية آمن بها، وبقي كذلك حتى الرمق الأخير.

 

استعادة ماركس، هل تصلح مرجعية للاحتجاجات المعاصرة؟

يقول شتاينفلد: إن المجتمع الذي تنطوي عليه الدولة الوطنية اليوم لم يعد يشمل التركيب الطبقي كاملاً، فبناؤه سوف يتباين عندما ينقل الجزء الأكبر من العمل الجسدي إلى العالم الثالث. إن اتجاه اندفاع الثورة لم يعد من الممكن أن ينطلق في خط مستقيم من تحت لفوق وحتى مكان آخر. ويتساءل: ماذا قد يحدث إذا قام عمال بنغلاديش مثلاً بثورة في حين أن أسياد المعامل الحقيقيين يجلسون في لندن أو زيورخ؟ ثم يجيب: لا شيء لأن الثورة ستصطدم بالفراغ، لكن هذا لا يعني أنه لن تقوم ثورات من بعد، ربما ستكون الثورة في المستقبل من نوع مختلف.

ويتابع: في العقود الماضية حدثت مجموعة من الثورات بشروط مخفضة، والأصح تمرّدات ناجحة، رُفعت إلى مرتبة ثورات، وهذه الثورات حملت شعارات (ملونة)، لكن اليوم لم يعد هناك من يأتي على ذكرها.

ويضيف: في تاريخ البشرية كانت (نظريات الخلاص) التي شملت مجموعات بشرية واسعة، قليلة العدد، وكانت نظرية ماركس الأخيرة بينها. وفي ثمانينيات القرن العشرين اختفى هذا التصور وبقيت فكرة (الإنقاذ)، وهذا ما دلت عليه حركات الاحتجاج منذ ذلك الوقت إلى اليوم.

في حركة (احتلّوا وول ستريت) التي دعا إليها الكندي كاله لاسن، نصبت الخيام أمام بورصات العالم الكبيرة، لقد أصبحت (المشهدية الصاخبة) هي المرجع. غي ديبور، صاحب كتاب (المشهدية الصاخبة) تحدث عنها فقال: الأمر بات يحتاج إلى صورة ومشهد وتعاطف الرأي العام حتى ينتصر هؤلاء المقاومون الجدد!

أخيراً يمكن القول: إن الناقد الألماني (شتاينفلد) قد نجح منذ الكلمة الأولى في العنوان حتى الصفحات الأخيرة في أخذنا نحو منظورات وزوايا جديدة في النظر إلى ماركس، كما نجح في إقناعنا أيضاً، من خلال عمله الدؤوب والمجهد حينما قام بمراجعة أدب القرن التاسع عشر وما سبقه، وتقصّي الأفكار الاقتصادية التي طوّرها ماركس فيما بعد ، وجعل منها مجردات نظرية فكرية ، أن الأدب هو ذاكرة الشعب النابضة بالحياة والصالحة في كل حين لتكون سجلاً لتاريخية جميع الأفكار التي تنمو وتتطور في ثقافته، ويحملها في نضاله الاجتماعي والسياسي.

أما ما أخفق فيه شتاينفلد فهو إقناعنا أن الثوري قد مات، وأن المنظّر هو كلّ ما تبقّى، لن يكون صحيحاً بالمطلق القول إن ثمة انفصالاً وتبايناً بين هاتين الصورتين إلى هذا الحد، فالمنظّر الذي بقي في الذاكرة، صاحب المنهج النقدي في التحليل والفهم، هو ذاته المؤمن بأن سلطة السلعة والشركة وعنف الرأسمال يجب أن يقاوَما بلا حدود.

  • د. نبيل الحفار، الأستاذ في المعهد العالي للفنون المسرحية بدمشق، وأمين تحرير مجلة (الحياة المسرحية)، وهو خريج ألمانيا، ومعروف بترجماته المميّزة عن الألمانية. وهذا الكتاب صدر مؤخراً عن دار أطلس بدمشق.

وتوجد ترجمة سابقة بالعربية لكتاب شتاينفلد، نُشر جزء منها على شبكة الإنترنت في عام 2018 للمؤرخ والكاتب والمترجم المصري شريف الصيفي، المقيم في برلين.

العدد 1104 - 24/4/2024