محمد فهد الدهان: مهارات المهندس السوري ونبله

صريح البنّي:

اللقاء الأول: أواخر تشرين أول 1967

دخل إلى غرفتي، في بناء هيغرلاند (السويدي)، في قرية الطبقة، شابّ يحملُ حقيبةَ ثياب، قال لي، وهو يبتسم: (وصلتُ بعد انصراف الموظفين المسؤولين عن تأمين منامة القادمين للعمل، هل تسمح لي بالنوم في غرفتكم، هذه الليلة؟).

سعدتُ بالزائر وشكرتُه، فقد غادر أغلب العاملين، كما هو الحال، بعد ظهر يوم الخميس، من كل أسبوع، في مشروع سد الفرات، وبقي القلائل القادمون من مدنٍ بعيدة، وليس هناك أفضل من زائرٍ يحمل سمات محبّبة ومهذّبة. سرعان ما بدأنا حديثاً امتدّ لساعات. كان جرح 5 حزيران 1967 طريّاً ونازفاّ، كما هو حاله، الآن، ولدينا الكثير مما نتبادل حوله الآراء. لا أذكر أن حذراً ما شاب حوارنا الطويل. عرفتُ أنه قومي عربي، ناصري، وعرفَ أنني شيوعي، لكننا أدركنا، منذ اللحظة الأولى، أن انتماءنا للوطنية السورية هو أقوى لدينا، معاً، وبكثير، من خياراتنا الإيديولوجية العابرة.

في تلك السهرة الطويلة، تجاوز عمرُ صداقتي، مع فهد الدهان، المئة عام.

اللقاء الأخير: ثاني أيام عيد الفطر، 2021

وجه أبي خالد يزداد شحوباً، فتكَ سرطان البانكرياس بجسده، أصبح يتكلم ببطء، يأخذ نفساً طويلاً، بعد كل جملة. روى لي وللصديق ماجد داوود، عن إقامته في إحدى غرف (الشيخ حسن):

(كنت أنتظر النوم، وهو لا يأتي بسرعة، بعد يومٍ شاقّ، عندما أحسستُ بأن أحدهم (يداعب) طرفَ أذني، انتفضت، وقفز الجرذ إلى وكرِه …).

اقترحتُ عليه أن يجرّب تدوين تلك الذكريات الغنية، فربما ينسى جزءاً من آلامه. أجابني: لم أعد قادراً.

بين اللقاءين، عشتُ مع أبي خالد وألوف الأصدقاء الغالين، السنوات السورية العظيمة، في سد الفرات وغيره من مشاريع إعمار سورية، كان فهد جيولوجياً، يستكشف نوعية طبقات أرضنا، ويقدر أعمارها بملايين السنين، وكنت طبوغرافياً، أقيس انزياحات جسم السد الترابي وأساسات محطته الكهرمائية، بعُشر الميلليمتر. كانت وحداتُ قياسنا مختلفة جداً، ولكنها متكاملة، وتتعلق بفهمنا لمواصفات أعماق الأرض وأشكال سطوحها. يعترف هو بأنه تلميذ الجيولوجيين السوفييت الكبار، وفي مقدمتهم: تشوماكوف، وأقرُّ بأن خبرتي تحمل في طياتها خبرات عشرات السدود، في الاتحاد السوفييتي، وقد ساهم في بنائها طبوغرافيون من لينينغراد وليتوانيا وأوكرانيا وأذربيجان… عملوا معنا، في الطبقة، وكانوا كرماءَ في تقديم خبراتهم.

إلى الأحياء منهم، أقول: لقد رحل صديقكم الذي أحببتموه وقدرتم رغبته القوية في (التعلم والتعلم والتعلم…)، ومهاراته التنظيمية والإدارية، وكفاءاته القيادية، وتمسكه بالانضباط وكل القيم التي كنتم تؤكدون عليها:

(ينبغي إنجاز العمل، حتى نهايته!)، كنتم ترددون، دون كلل.  أصبحت هذه الكلمات القليلة محتوىً لحياة أبي خالد، ولجميع هؤلاء الذين بنوا معالم سورية النامية العامرة.

لكننا عشنا، معاً، بين اللقاءين، سنوات المأساة السورية المستمرة، بدءاً من آذار 2011. عندما كنا نشاهد في وجه ابي خالد علامات ألم، يكبتها قدر استطاعته، راسماً ابتسامة مُطمْئِنة، متابعاً حديثه الشيق المترابط وأفكاره المرتبة العميقة.. كنا نعرف أن مردَّ ألمه الأكبر ليس سرطان البانكرياس، بل خوفه الشديد على مستقبل البلد الذي بنيناه معاً، مع ملايين السوريين، فوق هذه الأرض، كما جمعهم الله، منذ ألوف السنين، من إثنيات وأديان وقوميات مختلفة. في الطبقة، أدركنا قدرات السوريين، غير المحدودة، على التعايش، كما علّمهم السيد المسيح والنبي محمد، وكلّ مراحل التاريخ السوري المديد: عمال عرب وأكراد وآشوريون وأرمن.. من ريف حلب وإدلب، وقرى الساحل وحمص والسويداء وعامودا وعفرين.. ينفذون جبهات العمل، في ورديات غير منقطعة، في قطاعات الخرسانة والتركيبات المعدنية والأعمال الترابية والكهربائية والميكانيكية…

الصديقة الغالية ميادة الجابي:

أقبّل رأسك وأنت تكشفين، كل يوم، منذ أتيتِ إلينا، في الطبقة، مع أبي خالد، القدرات المدهشة للمرأة السورية الدمشقية، بصلابتها وحنانها وكرمها وإرادتها وتحمّلها وصبرها. أتساءل هل وفّاك حقك شاعرنا العظيم نزار قباني؟ أقول: أنت أقوى وأجمل من جميع تلك الصور الرائعة التي أبدعها. شاركتِنا العمل الجيولوجي الشاق، وأنت السورية الأولى التي اختارت هذا الاختصاص. آمنتِ، منذ الأزل، بأن لا شيء يصعب على المرأة، وأنك بإيمانك الصادق بالله، تكونين تقدميةً أكثر، وتجعليننا نخجل من أن بعض تقاليدنا ما زالت تُعلينا عليك، دون وجهِ حق.

إليك وإلى خالد ووفاء ودنيا وجميع أحفادك الغالين: سنزور ضريح أبي خالد، في وقتٍ قريب، ونخبره بأن سورية عادت كما آمن بها، طوال حياتِه، فليرتح في مثواه الأخير.

 

العدد 1104 - 24/4/2024