قراءة في الصين.. الفعل المؤسس لنظام عالمي جديد

د. أحمد ديركي:

صدر عن دار الشروق للطباعة والنشر كتاب بعنوان (الصين المؤسس لنظام عالمي جديد الجذور والمسار – حدود الطموحات) لمجموعة باحثين وهم د. بسام أحمد أبو عبد الله، ود. زياد جورج أيوب عربش، وأ. ميلاز هاشم مقداد.

يقع الكتاب في 353 صفحة، ويقسم إلى خمسة فصول، الأول تقديمي بعنوان السياق الكلي، والثاني بعنوان الجذور الثقافية للحضارة الصينية والبعد الأممي للصين الجديدة، والثالث بعنوان مسار تطور العلاقات الدولية للصين، والرابع بعنوان المكون الاقتصادي من استراتجية التموضع العالمي للصين، والخامس بعنوان حدود النمو والطموحات: التحديات والآفاق، إضافة إلى 7 ملاحق ولائحة المراجع ونبذة عن المؤلفين في سطور.

يبدو من عنوان الكتاب أنه كتاب يتابع المسار التاريخي للصين منذ نشوئها ولغاية الزمن الحاضر ودورها على الصعيد العالمي. ويتبين من العنوان أن الصين تلعب دوراً فاعلاً في تأسيس نظام عالمي جديد. فالقول (الفعل المؤسس) يعطي الصين دور الريادة في تأسيس ما تعمل على تأسيسه، وما تعمل على تأسيسه هو (نظام)، وهذا النظام نظام جديد. وهذا النظام لا ينحصر على المستوى الصيني فقط بل نظام عالمي. وهنا ندخل في متاهة عدم وضوح ماهية هذا النظام العالمي الجديد؟ ففي السياسية الدولية هناك أنظمة عالمية متسيدة تنقسم دول العالم، سياسياً، على أسس تبعيتها لهذه الأنظمة العالمية. أي في زمن وجود القطبين الاتحاد السوفياتي والولايات المتحدة الأمريكية انقسمت دول العالم وفقاً لدورانها في فلك أحد القطبين. بعد تفكك الاتحاد السوفياتي برز قطب واحد، قطب الولايات المتحدة، وبدأت دول العالم تارة دور في فلكه وتارة تحاول الخروج من فلكه، ولكن حتى تلك التي تحاول الدوران خارج فلكه تتبع هذا النظام بطريقة غير مباشرة، في أنماطها الاقتصادية، وبهذا تفقد قدرتها على الدوران خارج فلك الولايات المتحدة بما تمثله من كونها رأس الهرم في نمط الإنتاج الرأسمالي.

فعند طرح الصين، وفقاً لعنوان الكتاب بهذا الشكل (الصين الفعل المؤسس لنظام عالمي جديد) فهل هذا يعني أن ما تطرحه الصين للتأسيس هو نمط إنتاج عالمي مغاير عما هو قائم؟ أو أن ما تطرحه مجرد نظام عالمي بلا هوية ليطلق عليه صفة (الجديد) على اعتبار أن هويته الإيديولوجية لم تتبلور بعد، ليكون السؤال ما الهوية الإيديولوجية لهذا النظام العالمي الجديد؟ لذا يدخلنا العنوان في متاهة اللاإيديولوجيا أو ما يطلق عليه في مصطلحات نمط الإنتاج الرأسمالي، بصيغته النيو-ليبرالية، (الحياد) وأكثر ما يتميز بالعمل ضمن هذه المفاهيم الفضفاضة غير الواضحة هي المنظمات اللاحكومية! فجميعها يعمل تحت مظلة (لا للعمل السياسي)!

قدم الكتاب الدكتور د. نبيل طعمة ومما جاء في تقديمه: (… احتاج هذا العمل لتضافر جهودهم البحثية والفكرية، وذلك لإخراج مؤلفهم عن دولة لم يقدر التاريخ الروحي والمادي أن يستبعدها ولو مرة واحدة، فكانت موجودة في الذواكر، تناقلتها الأحقاب الزمنية والأطوار البشرية…). يبدو أن د. طعمة (يؤمن) بوجود تاريخين الأول روحي والثاني المادي. وقد عجز كل منهما أن يبعد الصين عنه! بعيداً أن كان التاريخ تاريخين أو ثلاثة أو واحداً، لكن الأمر غير المفهوم هو هل المقصود بالتاريخ الروحي هو التاريخ الديني؟ أو أمر آخر، أي تاريخ الميتافيزيقيا (الماورائيات)، والتاريخ المادي هو التاريخ الإنساني، بمعنى التاريخ الذي يكتبه الأقوياء، أو التاريخ المادي بالمعنى الماركسي؟ فاستخدام عبارة (… التاريخ الروحي والمادي) تشوش الفهم المقصود من هذه العبارة وتترك القارئ في متاهات فكرية يمكن تأويلها بطرق متعددة ما يفقد الكتاب مصداقيته العلمية. أما بالنسبة لعملية (الاستبعاد) فتبدو هناك مبالغة كبيرة في هذا الأمر، ويحول الموضوع المبحوث من بحث علمي إلى كتاب بلغة التنميق الأدبي، ومبالغات شعرية و…

نكتفي بهذا حول التقديم. أما بالنسبة لمحتوى فصول الكتاب، وبسبب محتواها الغني والمتشعب، سوف نقاربها بشكل أولي لا تفصيلي، لأن المقاربة التفصيلية تحتاج إلى أكثر من مقال، لذا سوف نكتفي بإعطاء نبذة عن محتواها.

الفصل الأول: عالج الفصل الأول المسار التاريخي للصين وتحديداً منذ ثورة الشعب الصيني عام 1949 بقيادة ماوتسي تونغ. ثورة بدأت معها الصين (أولى خطواتها على طريق النهوض) (ص. 14)، تبعتها ثورة التصحيح عام 1978 التي قادها دينغ سياو بينغ، ما أدى إلى انطلاق الاصلاح الاقتصادي ومنذ ذلك الحين (والبلاد تحقق معدلات نمو سنوية تصل إلى 10 % مضاعفة بذلك ناتجها القومي كل سبع سنوات) (ص. 15).

اختيار مقتطف من خطاب ماوتسي تونغ أثناء المؤتمر الثامن للحزب الشيوعي الصيني (30 آب 1956) الذي يقول فيه: (… إن تخطي الولايات المتحدة ليس ممكناً فحسب، بل أمر ضروري جداً وإجبارياً. إذا لم نحقق ذلك، ستخذل الأمة الصينية أمم العالم، ولن يكون لنا إسهام كبير في البشرية…) (ص. 15) مقتطف يشير إلى الإيديولوجيا المتبعة في السياسية الصينية ويوضح هدفها. وهي إيديولوجيا قائمة على الأسس التالية: 1) تخطي الولايات المتحدة، 2) مساهمة الصين، اعتماداً على خلفيتها الفكرية، في لعب دور على مستوى البشرية.

الفصل الثاني: يذهب هذا الفصل ليتتبع التاريخ الصيني منذ زمن الأسطورة، وقد يكون هذا ما قصد بالتقديم عند الحديث عن التاريخ الروحي، وتشكل السلالات الحاكمة، ليصل إلى بذور تشكل الفلسفة الصينية بداية مع المدرسة الطاوية، ومؤسسها لاوتسي. ومن ثم الفلسفة الكونفوشيوسية والفلسفة الموهية مع مؤسسها موتسي.

ينتقل بعد هذا التقديم التاريخي إلى تأسيس جمهورية الصين والحزب الشيوعي مع ثورة شينغاي عام 1911، وحركة الرابع من مايو عام 1919، التي نتج عنها تأسيس الحزب الشيوعي الصيني في شنغهاي. وصولاً إلى تأسيس جمهورية الصين الشعبية ودخولها إلى الأمم المتحدة لتصبح عضواً فيها عام 1971 وتصبح واحداً من الأعضاء الدائمين في مجلس الأمن. ينتقل من بعدها، المؤلفون، إلى الحزب الشيوعي الصيني وعمله على أن يكون جزءاً من الشعب (الذي يناضل من أجل الحرية والاستقلال والحداثة والتطور، لذلك رفض الحزب أن يكون بديلاً من الشعب…) (ص. 78) وهذا ما يظهر في دستور البلاد والمؤتمرات الحزبية.

وقد يكون أكثر ما تميزت به الإيديولوجيا الصينية هو عملية تطوير الفكر انطلاقاً من القاعدة الفكرية الماركسية. فالفكر الماركسي لا يعرف الجمود، فعمل الحزب الشيوعي الصيني على هذا الأساس، وصولاً إلى حد طرح (الاشتراكية ذات الخصائص الصينية). طبعاً هنا نخوض غمار مقاربة هذه التجربة، لكن سوف نذكر بعض خصائصها الواردة في الكتاب. يقول: (… الكثير يُبشر بنجاح التجربة انطلاقاً من التطور الملحوظ لقوى الإنتاج ومعدلات النمو الاقتصادي وارتفاع الناتج المحلي الصيني وتحسن مستوى دخل الفرد في الصين) (ص. 88) فحاول التعرف على أسس الخصوصية الصينية من خلال: الأساس الحضاري، الأساس القومي، الأساس الوطني.

الفصل الثالث تناول مسار تطور العلاقات الدولية للصين: المرتكزات والاتجاهات والمحركات. ومن المرتكزات في هذا المسار أولاً السلمية والاحترام والمنفعة، لضمان (بيئة دولية مواتية لإصلاحها وانفتاحها مع الحفاظ على السلام العالمي وتعزيز التنمية المشتركة، وهي – أي الصين- ملتزمة بالمبادىء الخمسة الشهيرة التي عبرت عنها في العام 1954: الاحترام المتبادل للسيادة والسلامة الإقليمية، عدم الاعتداء، عدم التدخل في الشؤون الداخلية، المساواة، والمنفعة المتبادلة والتعايش السلمي) (ص. 107).

بعد ذلك، يذهب الفصل الثالث لتفصيل هذا المسار من خلال تتبع مسار تطور مكانة الصين في العلاقات الدولية، مع عدم إهمال الوضع الداخلي للصين.

والفصل الرابع تناول المكون الاقتصادي من استراتيجية التموضع العالمي للصين: المسار والثقل. فيقدم (تحليلاً شاملاً ومكثفاً لتطور مسار الاقتصاد الصيني حيث ينطلق من الحقبة الزمنية البعيدة وصولاً إلى المرحلة المؤسسة للانطلاقة الجديدة لهذا الاقتصاد (1949 – 1978)، ثم يبين محركات النهوض الجديد بعد مسيرة الإصلاحات (1978) لغاية اليوم) (ص. 178).

والفصل الخامس تناول حدود النمو والطموحات: التحديات والآفاق. يبحث في التحديات التنموية التي تواجهها الصين، فعلى الرغم من أنها (تحقق أعلى معدلات النمو الاقتصادي في العالم، فإن مكانة الصين في مجال مؤشر التنمية البشرية ما زالت متواضعة جداً) (ص. 306) إضافة إلى مسالة عدم توازن التنمية داخل الصين والعمل على حلها حيث (يشكل شرقي الصين بمساحته 40% من مساحة الصين الإجمالية، بينما يسهم بتكوين أكثر من 70% من الناتج المحلي الاجمالي، بالمقابل لا يزال غربي الصين يحتاج إلى بذل مجهودات تنموية كبيرة…) (ص. 308) ومسألة الاكتظاظ السكاني والشيخوخة وقضايا الطاقة وتأمين الامدادات والمسألة البيئية.

يختم الكتاب بخلاصة ومن أبرز ما جاء فيها (ويبقى السؤال مطروحاً: هل ستتمكن الصين من تجاوز التحديات الداخلية والخارجية الحالية وقيد التشكل؟ وهل تحالفاتها الحالية والمستقبلية ودورها.. ستبلور نظاماً جديداً للعلاقات الدولية منفصلاً تماماً عن الماضي، أم سيكون استمراراً للنظام العالمي الكلي بصيغته الحالية وبطابع أكثر صينية، كعولمة بنسختها الصينية الحديثة؟) (ص. 324)

وفي الختام يمكن القول إنه كتاب جيد وموثق، رغم تضمنه لبعض العبارات الأدبية المنمقة التي لا تتلاءم مع الأبحاث العلمية، يغني المكتبة العربية ويراكم معرفة حول الصين، وقد يمثل مرجعاً قابلاً للتطوير لكل باحث مهتم بموضع الكتاب. مع لحظ أن ما ورد ليس نقد للكتاب بل مجرد عرض له.

العدد 1102 - 03/4/2024