استثمار شبابي

غزل حسين المصطفى:

لا أدري كيفَ غدا ذلك الصَّغير الّذي حملتُه يوماً بين ذراعيّ شابّاً يفوقني طولاً، يستشيرني اليوم في قضايا ومسائل حياتيّة وإنسانيّة.

تتكوّن ملامح شخصيته وتفاصيل وجهه بطريقةٍ تجعل عيوني تدمع فرحاً وفخراً، في تلك اللحظات أفهم تماماً شعور الأمهات حين يبدأن بقطف زرعهنّ في أبنائهنّ، وأنا فقط الأخت الأكبر، كيف لو كنت أمّاً!

محمد، أخي الأصغر، طالب مدرسي يعارك هذا العام منهاج الصّف الثّالث الثانوي، أيام معدودة على التّقويم تفصله عن المرحلة المفصليّة في حياته الدراسيّة وترسم خطاه نحو مستقبله.

قبل أربع سنوات، حين بدأتُ مسيرتي التّطوعيّة، هبَّ محمد، على صغره حينذاك، بكلّ عنفوان ودماء تفوح حماساً، تسبقه همّته ليُنفّذ النشاطات ويقدّم الاقتراحات، يبارينا نحن الأكبر سناً في الذود عن المبادئ الإنسانيّة والأفكار الّتي كنّا نعمل عليها كفريق شباب تابع لإحدى الجمعيات الإنسانيّة في سورية، حماسه ذلك جعل العيون كلّها ترقبه وتخطّ له المسار ليكون يوماً رئيساً لتلك الجمعيّة بلا تردّد، آملين منه قفزة نوعية تعدل كفّتَي الميزان وترسم مساراً صحيحاً.

محمد أو كما أحب أن أنادي صغيري: (حمودة). صغيري! لا، لا، قد صار شاباً يا غزل!

حمودة، لا يرى أيّ مبرر لأن نخون ذواتنا ونستهين بأدقّ التفاصيل، أقطع بعض نقاشاتنا بقولي: (السِّراط المستقيم وحقوق الإنسان غير قابلين للتطبيق على أرض الواقع بدقة، نحن غير مخوّلين لإعادة رسم الكوكب وتكوين البشر يا حبيب قلبي…). أقول قولي هذا وأنا غير راضية، لكن أحاول بعض الشيء أن أخفّف حدّة اندفاعه لتحقيق الصورة المثلى في الواقع.

أخاف عليه من كلّ تفاصيل الواقع، تلك الأمواج التي ارتطمت بسفينتي وكسرت أشرعتي يوماً، كيف ستفعل به؟!

أخاف عليه من يأسٍ يأكل شغفه ويقتات على جمر شبابه حتى يُصيّره رماداً!

أخاف عليه من ريحٍ تخلع أشرعته أو تقلب مساره فيضيع منّا!

(الحب، الخير، الحق، الصّواب، الخطأ، الوطن).

بعض الكلمات الّتي تحمل معها كبرى القضايا والمشاكل الّتي تشغل حيّزاً أو ربما تشغل كلّ تفكيره واهتمامه، حاله حال كُثُر من الشّباب في عمره ربما، إذ لا بدّ لتلك الطاقات الشبابيّة أن تتفجّر، لكن المشكلة هنا هل لدينا القدرة الاستيعابيّة لحشد هذه الطاقات واستثمارها؟! لاسيما بعد هذه السَّنوات الطَّويلة التي عشناها وما زلنا نعيشها، ونحن ننام ونصحو في رسم المُخططات والرُّسوم الأوليّة لطوق النجاة، نحلم بسفينة نوح تُنقذ ما بقي منّا حتّى لا يقتلنا طوفان الشؤم وانعدام سبل الحياة.

نحن نبحث عن تنظيمات شبابيّة تطوّق حماسنا، سواء كانت هذه التَّنظيمات إنسانيّة غير ربحية تسمو بإنسانيتنا، أو تنظيمات سياسيّة تجعلنا نشعر بأننا جزء من التَّغيير وصناعة القرار.

ولكن، من وجهة نظري ورؤيتي للواقع، قد ظفرت مؤخراً وخلال سنوات الحرب بعض التَّنظيمات التي انبثقت تلبيةً للحاجة الآنيّة، في جذب الشَّباب لأجل تحقيق الهدف الإنسانيّ منها على اختلافه (جمع تبرعات، توزيع طعام، ملابس، أدوية، نشاطات للأطفال، حملات دعم نفسي …) وعلى الطرف المقابل لم تستطع التَّنظيمات السياسيّة تحقيق آمال جيل الشباب بما فيه الكفاية وفتح باب الحوار بكبرى القضايا على مصراعيه كما يأملون وتدفعهم رؤاهم، وبقيت تلك التَّنظيمات تدور وتدور في قوقعتها الرَّتيبة ذاتها، محاولةً خلق حالة من التَّجديد ومواكبة التطلعات والمطالب، لكن بقيت محاولاتها قيد التَّخطيط والتَّسويف، ولم تبصر نوراً ولو كاذباً للتطبيق العمليّ الحقيقيّ.

من هنا وانطلاقاً ممّا سبق خُلِقَ قلقي على (حمودة) هل تخبو شعلته وأنا على ذاتي أدور خوفاً؟!

هل تتغيّر الأحوال بمعجزة؟!

هل أترك طاقته تضيع ويغدو ربيع عينيه يباباً؟!

هل أرقب كسر جناحه وتحوّل قلبه النَّابض إلى صوت مُسنّنات آلة يأكلها الصدأ وتقادم الزمن؟!

أسئلةٌ تقود نحو نتيجة واحدة: إمّا الحياة، أو الموت تحت عباءة الموت.

لذلك أقول لصغيري الشاب: دع لجناحيك حريّة الطَّيران، حلّق بعيداً حيث ترى أنّك إنسانٌ حقيقيّ، لا مجرّد حروف على البطاقة التعريفيّة.

إلى محمد.. غامِر ومن معك بأن تخلقوا فرصة من رماد واقعنا لأجل الذين من بعدكم.. نحن بحاجة حقيقيّة لأن نكون!

العدد 1104 - 24/4/2024