عشر سنوات على المأساة.. خلاصُنا بحوارنا وتوافقنا

كتب رئيس التحرير:

قلناها قبل الكارثة، وخلال سنواتها الدامية، ونقولها اليوم: كان المطلوب أمريكياً تهيئة المناخ إقليمياً كي يجتاح الكيان الصهيوني المنطقة العربية، دون تدخّل القاذفات والبوارج والمارينز الأمريكي، فالغزو العسكري التقليدي لا ينسجم مع العقيدة الأمريكية الجديدة، التي تعتمد على تدمير الحضارات عن طريق (لقاء) الحضارات! وكانت سورية ومحورها المقاوم هي الحاجز الذي يهدد نجاح المشروع الأمريكي الصهيوني.

حذّرنا من استهداف بلادنا، وطالبنا بحزمة من الإصلاحات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، كي تبقى سورية عصيّة على الاستباحة، وحين نزلت الملايين إلى شوارع المدن العربية ناقمين على التهميش والطغيان والفساد، حلّلنا دوافع هؤلاء المهمّشين، ومشروعية مطالبهم، رغم الدور التخريبي الذي لعبته الأدوات الأمريكية وحلفاؤها في إثارة غضب الجماهير العربية، وتوجيه مسار الشارع حسب المخطط الأمريكي الصهيوني، وتقدّمنا في حينه باقتراحات جدّية لتحصين بلادنا، وتصليب صمودنا، في مواجهة هذا المخطط. وعند اندلاع الأزمة السورية، دعونا مجدداً إلى التعامل الإيجابي مع الأحداث، وملاقاتها بإصلاحات سياسية واقتصادية تصب في إطار تغيير تدريجي.. ومتوازن، واقترحنا الدعوة إلى مؤتمر حوارٍ وطنيّ، يضمّ جميع الأطياف السياسية والاجتماعية والدينية والإثنية، بهدف التوافق على هذه الإصلاحات، وقطع الطريق على نوايا التدخل الأمريكي الصهيوني التي كانت ظاهرة للجميع، لكن البعض كان سمعه ثقيلاً، والبعض الآخر منعته غطرسته من رؤية المشهد.

في عددنا هذا سنعيد نشر وثائق ومقالات حول الأزمة السورية، أصدرتها قيادة حزبنا الشيوعي السوري الموحد، وهيئة تحرير صحيفة (النور)، منذ بداية الأزمة، وجوهر هذه الوثائق مازال صالحاً البناء عليه من أجل إنهاء الأزمة السورية عبر الحلول السياسية.

لقد أدت تداعيات الأزمة والغزو الإرهابي إلى دخول سورية في مرحلة هي الأصعب في تاريخها الحديث. فقد أزهقت أرواح عشرات الألوف من المواطنين الأبرياء، وفقدَ السوريون آباءهم وإخوتهم وأبناءهم، وتعرّضوا للتهجير القسري بعد تهديم بيوتهم وقراهم، ودخل الاقتصاد السوري مرحلة الركود، بعد أن عمد الإرهابيون إلى تهديم القطاعات الإنتاجية من المصانع والمزارع والبنى التحتية، وتخريبها وحرقها، وسرقوا وسائل الإنتاج، مما أدى إلى فقدان مئات آلاف الوظائف، وارتفاع نسبة البطالة والفقر.. والفقر المدقع إلى مستويات قياسية، ومع الحصار الجائر وقوانين العقوبات التي فرضتها الولايات المتحدة الأمريكية وحلفاؤها، واجه المواطنون السوريون أوضاعاً معيشية صعبة جداً، كانت تزداد مأسوية كل يوم بسبب تداعيات الحصار والركود الاقتصادي، وأيضاً بسبب التقصير الحكومي في معالجة الأوضاع الاقتصادية والمعيشية وبروز فئات مستغلة اقتنصت ظروف الحرب ومارست تحكّمها في غذاء المواطنين السوريين واستقرارهم، ومارست أبشع استغلال لظروف الحرب لتكديس ثرواتها.

مجازر الغزو الإرهابي وتداعياته، تسببت بهجرة ملايين السوريين إلى دول الجوار، والدول الأوربية بحثاً عن الأمان والعمل والاستقرار، وتسببت بأضرار بالغة للاقتصاد السوري، قدرت حتى الآن بنحو 450 مليار دولار، وتحولت سورية التي كانت تطعم القريب والبعيد إلى دولة محاصرة من التحالف الذي تقوده الولايات المتحدة، ويبحث المواطن السوري فيها عن غذائه اليومي ودفئه ودوائه، وحليب أطفاله، بعد أن تعرض لأبشع المجازر على أيدي الإرهابيين خلال سنوات الحرب، في ظل سوء أداء الحكومات المتعاقبة وتهاونها، واستشراس تجار الحرب والمتكسّبين من ظروف المواطنين القاسية.

وقف الشعب السوري في مواجهة الغزو الإرهابي، وكان على المتاريس إلى جانب جيشه الوطني في مواجهة الإرهابيين، وقدم أغلى التضحيات للحفاظ على سيادة بلاده ووحدتها أرضاً وشعباً رغم ظروفه المعيشية والإنسانية المتردية، وكان هذا عاملاً رئيسياً في النجاح الذي أحرزه الجيش السوري بمساعدة الأصدقاء في روسيا في استعادة معظم الأرض السورية من أيدي الإرهابيين، وحصار ما تبقى منهم في بؤر محددة، وعودة الاستقرار والأمان إلى المدن السورية الرئيسية.

لقد انفتحت بعد إنجازات الجيش السوري آفاق التسوية السياسية للأزمة السورية، وتلعب حالياً منصة (أستانا) دوراً رئيسياً في هذا الإطار، رغم تواضع النتائج حتى اليوم، بسبب العراقيل التي تضعها الولايات المتحدة وحلفاؤها أمام إنجاح الحل السلمي، وإصرارها على استمرار العمل العسكري لاستنفاد القدرات العسكرية والاقتصادية للدولة السورية، وفرض الحلول التي تتوافق مع خطتها الهادفة إلى إركاع سورية ومحور المقاومة تمهيداً لاستباحة المنطقة برمتها من قبل الكيان الصهيوني، خاصة بعد (صفقة القرن) التي أنابت فيها الإمبرياليةُ الأمريكيةُ الكيانَ الصهيونيَّ، بالهيمنة على الشرق الأوسط برمّته.

لقد أكد حزبنا منذ بداية الأزمة السورية أن الحل النهائي للصراع لا يمكن أن يكون عسكرياً رغم الأهمية القصوى لهذا الجانب في مواجهة القوى المعادية على اختلاف أنواعها ومكوناتها، خاصة بسبب ما تلقاه من دعم غير محدود من القوى الخارجية الإقليمية والدولية المحركة لها، إذ لا بدّ من أجل حسم الصراع لمصلحة الشعب السوري من التوصل أخيراً إلى حل سياسي يضمن استقلال الدولة السورية ووحدتها أرضاً وشعباً، في مواجهة جميع محاولات التفرقة أو التقسيم على أسس طائفية أو مذهبية أو عرقية، ويضمن أيضاً حق المواطنين السوريين في اختيار نظامهم السياسي وقادتهم بالاستناد إلى دستور ديمقراطي.

جاء في التقرير السياسي الذي أقره المؤتمر الثالث عشر للحزب الشيوعي السوري الموحد، الذي عقد في تشرين الثاني 2019:

(لا يمكن اعتبار أن محاربة الإرهاب والإرهابيين في سورية قد حُسمت بالانتصار عليهم عسكرياً، فالقضية أكبر وأعمق من القضاء على الآلاف منهم ودحرهم كمقاتلين من معظم الأراضي السورية، رغم أهمية هذا الجانب من الحرب. إن الجانب الأكثر أهمية في هذه المعركة هو محاربة المنابع الفكرية للإرهاب من جهة، ونشر الفكر التقدمي والعلماني من جهة أخرى، مما يتطلب إشاعة المناخ الديمقراطي في البلاد وتوسيع الحريات للقوى التقدمية والعلمانية، كي تتمكن من القيام بدورها المفترض في هذا المجال. وفي الوقت ذاته، لا بد من مواجهة محاولات تهميش الاصطفافات السياسية الوطنية التي تشكل قاعدة العمل السياسي والديمقراطي، وكذلك مواجهة السعي لإنشاء تخندقات دينية وطائفية وقبلية وعشائرية، مما يشكل خطراً على الوحدة الوطنية في البلاد).

ويرى حزبنا أن معركة السلام لا تقل ضراوة عن المعركة العسكرية، إذ لا يجوز هنا التنازل عن الثوابت الوطنية السورية المتمثلة حسب ما نراه بالحفاظ على سيادة سورية، ووحدتها أرضاً وشعباً، ومنع تقسيمها تحت أي مسمى، وضمان خيارات الشعب السوري وحقوقه السياسية والدستورية. وأن الطريق إلى تحقيق ذلك هو توحيد كلمة السوريين عبر مؤتمر وطني شامل، يضم جميع أطياف الشعب السياسية والاجتماعية والإثنية، للتوافق على مواجهة الاحتلال الصهيوني والأمريكي والتركي للأرض السورية، ورسم ملامح المستقبل السوري، الديمقراطي.. العلماني.. التقدمي، الذي يضم الجميع.

العدد 1104 - 24/4/2024