الحكومة تُقاسمنا خبزنا! .. بعد أن رفعت السعر وأنقصت وزن الربطة..  تتباهى لا بتوفير الخبز بل بالتوفير منه؟!

ذوقان شرف:

الخبز، كما يعرف الجميع في بلادنا، هو العنصر الرئيسي في غذاء السوريين، ويكاد يستحيل أن يغيب عن موائد السوريين، فطوراً أو غداءً أو عشاءً (يمكن أن نستثني فقط بعض الحالات المرضية، وقلّة قليلة جدّاً، وهؤلاء لا تتجاوز نسبتهم 1 %).

وللخبز حضورٌ كثيفٌ وغنيّ أيضاً في ثقافة السوريين، فحين يريد السوري أن يعبّر عن قوّة العلاقة مع شخص أو مجموعة يقول: (بيننا خبز وملح!).

وقد بدأت الحكومة ترفع سعر الخبز، منذ بدأت بتنفيذ توصيات البنك وصندوق النقد الدوليين، مدّعيةً أنها تطبّق (اقتصاد السوق الاجتماعي)، ورفعت راية (إيصال الدعم إلى مستحقّيه)!

وفيما بعد، رفعت الحكومات المتعاقبة سعر الخبز، في السنوات العشر الأخيرة، عدّة مرّاتٍ، و(أعادت هيكلته)، فأنقصت عدد الأرغفة في الربطة الواحدة، وقلّلت وزنها، وصغّرت قياس كلّ رغيف، وجعلت الحصول على الخبز يستدعي يومياً الانتظار والوقوف ساعاتٍ، على حساب وقت المواطن وصحّته وكرامته.

وفي تبرير الحكومات لزيادة سعر الخبز، كرّرت في كل مرّة ذرائع تذرّعت بها، منها:

–        سوء تصنيع الرغيف، وتسرّب كميات كبيرة من الخبز من مجال تلبية حاجة المواطنين اليومية، إلى تلبية حاجة مربي الثروة الحيوانية (خاصة الأبقار) لاستخدامه علفاً.

–        تهريب الدقيق التمويني وبيعه للأفران الخاصة وأفران الحلويات والمعجنات.

–        التكلفة العالية لفاتورة دعم الخبز، وأنها صارت تشكّل عبئاً على الموازنة العامة للدولة.

– العقوبات والحصار الاقتصادي، وقد توّجَها منذ تسعة أشهر ما يُعرَف بـ(قانون قيصر).

ومعظم هذه المبرّرات، إن لم نقل كلّها، تقع مسؤولية معالجتها وحلّها على عاتق الحكومة، غير أنها بدلاً من أن تقوم بمسؤولياتها، حمّلت معظم العبء للمواطنين، برفع سعره وزيادة صعوبات الحصول عليه، وراحت تتباهى، على حسابهم وحساب صحّتهم وكرامتهم، بأنها وفّرت يوميّاً على الخزينة كذا مليوناً!

 

الحقير.. والأحقر!

في الأشهر الماضية، وبعد أن رفعت سعر الخبز، خفّضت الحكومة كميات الطحين المسلّمة للأفران، وفي إطار تبرير ذلك التخفيض ادّعت الحكومة أن كميات القمح المتعاقد عليها تأخرت في الوصول إلى مرافئنا، بسبب العقوبات وحالة الحصار وقانون قيصر.. وما إلى ذلك!

وقد أدّى ذلك إلى تفاقم الازدحام في طوابير الانتظار، على منافذ بيع الخبز في الأفران العامة والخاصة، وصار الحصول على ربطة خبز أو ربطتين يستلزم الوقوف ساعات في انتظار الدور، وعلى هذا يبدو أن الحكومة تدعونا، دون أن يرفّ لها جفن، إلى أن نسبّ الإمبريالية ونشتمها نحن وأولادنا، وأن نحقد عليها أيضاً، وهذا، من حيث المبدأ، كلامٌ (لا غبارَ عليه!)، أمّا المُفعم بالغبار والشحوم فهو أن تنتظر الحكومة منّا أن نعذرها في تقصيرها وقلّة حيلتها، وتالياً يبدو أنها تطلب منا أن نُقنِع أولادنا أن يناموا بلا عشاء، أو أن يستغنوا عندما يذهبون إلى المدرسة عن لفافة اللبنة، أو الزيت والزعتر!

ولكن، يا حكومتنا الموقّرة، ويا وزراءنا الأفذاذ، ويا دُعاة الصمود الأشاوس: لقد اقتنع من لم يكن مقتنعاً من السوريين، كباراً وصغاراً، منذ عُرض مسلسل (الخربة) أول مرّة، أن الإمبريالية هي أحقر شي، وقد لا يوافقون كلّهم مع فياض على أن بقرة معلّمو لأكرم هي أحقر من الإمبريالية، ولكن، يحقّ لكلٍّ منهم أن يسألكم: إن لم يجد أولادنا أرغفة الخبز على موائد غدائهم وعشائهم، هل سيملؤون بطونهم ويشبعون من مسبّاتنا وشتائمنا للإمبريالية، ومن حقدنا عليها؟! وهل يمكن أن تحلّ المسبّات والشتائم والحقد محلّ أرغفة الخبز التي ستلفّ بها الأمهات السوريات لأبنائهنّ سندويشات اللبنة أو الزيت والزعتر، ليأكلوها في المدرسة؟!

 

زدتم سعر الخبز
فهل حسّنتم نوعيّته؟

وهل أنصفتم عمّال الأفران؟

إذاً، رفعت الحكومة سعر الخبز، أواخر تشرين الأول 2020، وعدّلت وزن الربطة، وأضافت سعر كيس النايلون، فصار سعر كيلو الخبز دون كيس: 75 ل. س. وصارت الربطة (1100 غ، مع الكيس) بمئة ليرة، إذا اشتراها المواطن من منافذ البيع في الأفران الآلية، أما عند المعتمد فأباحت الوزارة للمعتمد أن يبيعها للمواطن بـ 125 ليرة، ولكن كثيراً من المعتمدين لا يكتفون بذلك، فيبيعونها للمواطن بـ 150 ليرة، إما بذريعة عدم توفّر فراطة، أو (إذا مو عاجبك روح عالفرن!). فإذا كان المواطن ينتظر في طابور الدور على باب المعتمد ساعتين أو أكثر، فإن الذهاب إلى الفرن يعني انتظاراً في الطابور خمس ساعات أو ستّ، وأن يتحمّل ما تتضمّنه هذه الساعات من هدرٍ للكرامة وإذلال، قبل أن يصل إلى (منفذ البيع) وينال حصّته.

وفوق ذلك كلّه فإن نوعية الخبز ومستوى نضجه وجودته لم تتحسّن عما سبق في معظم الأفران، كذلك لم يرافق رفع سعر الخبز إنصافٌ لعمّال الأفران، ولا تحسّنٌ في تعويضاتهم، وحوافزهم، ومكافآتهم. وهؤلاء العمّال عموماً يبذلون جهوداً جبّارة لتأمين تشغيل الأفران، ويعانون ظروفاً شديدة القسوة، دون أن ينالوا ما يستحقّون.

 

انتظار.. وإذلال!

وأسباب طول فترة الانتظار، عند باب المعتمد، أو على منافذ البيع في الأفران، عديدة، أوّلها قلّة الكميات التي تنتجها خطوط الإنتاج مقارنةً بعدد المنتظرين، خاصّةً بعد تخفيض كميات الطحين المخصّصة لكل فرن أو لكل محافظة، كما أن بعض خطوط الإنتاج تتعرض لأعطال وتوقفات، لأسباب عدّة، يضاف إلى ذلك قلّة عدد الأجهزة المخصصة لإدخال البطاقة الذكية، يقابله، على مدار الساعة، عدّة صفوف من المنتظرين (دور المدنيين_ دور العسكريين_ دور النساء_ يُضاف إلى هؤلاء المنتظرين، وعلى حساب وقتهم وانتظارهم وعلى حساب كرامتهم أيضاً، يُضاف عددٌ غير قليل ممّن يأخذون، من خارج الدور، حصّتهم وحصّة غيرهم من الخبز).

 

توفير أم سرقة؟!

حين قرّرت الحكومة، منذ نحو عشرين سنة، أن تجعل العطلة الأسبوعية يومَين، قدّمت عدّة مبرّرات وذرائع، لكنّ أقواها آنذاك كانت أن تعطيل يومٍ السبت إضافةً إلى يوم الجمعة يعني توفيراً غير قليل في إنارة الدوائر الرسمية والاتصالات والخدمات، ومنها ما تستهلكه وسائل نقل العاملين من بيوتهم إلى أمكنة عملهم وبالعكس، وقدّره أحد المسؤولين آنذاك بعشرات الملايين. التقط القاص المبدع وليد معماري رأس الخيط هذا، واقترح على الحكومة المُغرمة بالتوفير، في الزاوية الأسبوعية التي كان يكتبها آنذاك في جريدة تشرين، أن تجعل العطلة الأسبوعية ستة أيام بدلاً من يومين، وبذلك سيتضاعف التوفير الذي تحقّقه أضعافاً!

اليوم، يبدو أن نغمة التوفير قد راقت للحكومة، فأعلن بعض مسؤوليها أن توزيع الخبز بموجب البطاقة الذكية قد وفّر على الخزينة يومياً كذا مليون، وأن رفع سعر الربطة وخفض وزنها قد وفّر على الخزينة العامة للدولة يومياً مئات الملايين من الليرات، غير أن الحكومة، أو لنقُل بعض مسؤوليها، يتجاهلون قصداً أن مئات آلاف السوريين ممن ابتلوا بهذه البطاقة قد أمضوا يومهم دون خبز، ولم يحصلوا على حصّتهم، لأن كمية الخبز عند المعتمد أو في منفذ البيع انتهت قبل أن يصلهم الدور، وهكذا يجد بعض المواطنين أنفسهم مضطرّين لشراء الخبز السياحي (وسعره يعادل عشرة أضعاف سعر الخبز العادي، بل أكثر)، أو لشراء خبز الصاج أو التنور (وسعر الربطة منه تقريباً مثل السياحي أو أكثر).

كما أن عدداً غير قليل ممن ينتظرون الحصول على حصّتهم من الخبز، ليلاً، يخسرون حصّتهم بموجب البطاقة الذكية عن اليوم، لأنهم وصلوا إلى منفذ البيع بعد أن تجاوزت الساعة منتصف الليل، فيأخذون فقط حصة اليوم التالي.

فهل يُعقَل، إذاً، أن يُسمّى هذا توفيراً؟! أليس الأجدر أن يُسمَّى سرقةً موصوفة على رؤوس الأشهاد؟!

 

بين توفيره والتوفير منه؟!

إذاً، بدلاً من أن تسعى الحكومة إلى توفير الخبز لمواطنيها، بحسب حاجتهم الفعلية وبسعرٍ مقبول يناسب الدخل، وبدل أن يحصل كلّ مواطن على حاجته اليومية من الخبز بأيسر السبل، دون أن تُهدَر كرامته، ودون أن يضيع حقّه في خبز اليوم بموجب البطاقة إذا وصل بالدور إلى المعتمد أو منفذ البيع بعد منتصف الليل، بدلاً من ذلك فإنّ بعض مسؤوليها يتباهى بأنهم وفّروا على الخزينة كذا وكذا مليوناً، ألا بئس هذا التوفير وموفّروه؟!

وها قد مضت اليوم بضعةُ شهور على رفع سعر الخبز (أواخر تشرين الأول 2020)، وعلى تأخّر توريدات القمح، نسأل: أما آن للسفن والبواخر التي تحمل تلك التوريدات أن تصل؟!

 

ونسأل أخيراً

أليس ما نعانيه اليوم، فيما يخصّ الخبز، هو بعض العواقب والتبعات لإهمال الإنتاج والمنتجين وتهميش المطالب المحقّة، وهو أيضاً نتيجة للابتعاد، على مدى عقود، عن التنمية المتوازنة والشاملة والعادلة لكل مناطق سورية، ومنها طبعاً مناطق الزاوية الشمالية الشرقية، التي كانت ترفد الاقتصاد الوطني، إضافةً إلى النفط والغاز والقطن، بالقسم الأكبر من القمح؟!

منذ ألفي سنة كان القمح السوري يغذّي إمبراطورية روما، واليوم، لم يفُت الأوان بعدُ، لاستعادة اكتفائنا الذاتي من القمح، بالحدّ الأدنى، ونأمل في هذا السياق أن يلقى الاستجابةَ والنجاحَ شعارُ (عام القمح) الذي دعت إليه وزارة الزراعة، فأرضنا معطاءة وشعبنا شغّيل.. ويستحقّ أن يتمتّع بخيرات بلادنا، وبإنتاجه، وأن يبقى دائماً موفور الكرامة.

 

العدد 1102 - 03/4/2024