حتى قبركِ.. يخيفهم!

إيناس ونوس: 

هي قامةٌ أخرى ترحل وتتركنا نواجه مصيرنا في مهبّ ريح التخلّف العاتية، نحن الذين لا نزال نخطو أولى خطواتنا في طريق التَّحرّر الشائك.

هي لعنة جديدة تحلُّ بنا، فنبقى وحيدين، نحن الذين لم نتعلّم من الحياة وتجاربها، ولا من التاريخ ومنطقه، ولا من كل ما مرّت به البشرية على مرّ عصورٍ كاملة.

هو رحيلٌ آخر يكاد يقضي على ما كان قد تبقّى فينا من أمل، نحن الذين نريد مرشداً ومنيراً لدروبنا، رحلت وانتهت مع رحيلها مسيرة عمر طويل من عمر الإنسانية جمعاء، جمعت من الظلم والقمع والتنكيل بروحها وبعقلها وبقيمتها كإنسان، بقدر ما حملت بداخلها من التحدي والرفض للتابوهات المُعدَّة سلفاً بغية الإبقاء على انكسارنا وتخاذلنا وتقوقعنا حول مفاهيم لم تزدنا إلاّ تخلفاً وبشاعةً.

لم يكتفِ بنو البشر ولاسيما أبناء منطقتنا العربية من التخلّف ولم يشبعوا منه بعد، بل لا يزال البعض (وربما كثيرون) متمسكاً بشدّة وبصورة أكثر غوغائية بكل ما له علاقة بالتقهقر والتخلف والتبعية، دون أيّة محاولةٍ لإعمال العقل والتفكير بماهية الإنسان الحيّ الفعّال والمؤثّر ومكانته في المجتمع والحياة، ولهذا لم تنجُ نوال السعداوي من الهجوم الشرس عليها وعلى كل كلمة صرخت بها في وجه كل من يعمل على تسليع الإنسان عامةً والمرأة خصوصاً، وكان الهجوم الأكثر بشاعة من قبل من دفعت حياتها وعمرها ثمناً لتوعيتهن وتنويرهن ودفعهن لأن يفهمن معنى وجودهن على هذه الأرض، متماهياتٍ بهجوم ذكور القبيلة الكبيرة عليها ومستنداتٍ عليه.. وعليهم، والذي ربما نجد له مبرراً، فهم يخشون من فقدان مكانتهم التاريخية التي يرفضون وبشدّة التخلّي عنها، إنما أن تخونها تلك النساء اللواتي دافعت عنهن وعملت لأجلهن ودفعت من روحها وعقلها وحياتها ثمناً لأجل توعيتهن، فهو ما لا يتقبّله أيُّ عقل أو منطق.. وإن حاولنا أن نصنف الرفض القاطع لها من قبل المتأسلمين/ ات الذين لا يتوافقون معها بالرأي والفكر، نجده أرحم بكثير من هجوم أولئك الذين يظنون أنفسهم علمانيين/ ات عاملين/ات في حقل التنوير الاجتماعي والإنساني، أصحاب الفكر ذاته والأدوات والرؤى نفسها، فظلم ذوي القربى أشدُّ مضاضةً.

لم يُخلّصها موتها ورحيلها عن هذا العالم البشع من تلقّي صفعات أبشع الألقاب والنعوت، ولم يدرك أولئك المُتلفظون بها أن هذا بحدِّ ذاته اعترافٌ كبيرٌ بشخصيتها وإنتاجها ونمطية تفكيرها والمنطق الذي حملته، وبكل ما فعلته على مدار عمرٍ ناهز التسعين عاماً، وخوفٌ منه مستقبلاً بأن يكون هناك من يمتلك جرأتها وقوتها ويُكمل السير في الطريق ذاته، الخوف على تلك الشرنقة التي يريدون لنا أن نبقى مختبئين بين خيوطها الواهية، رافضين لأجنحتنا أن تُحلّق في ضوء الشمس، فيلج تلافيف عقولنا ليحركها ويعمل على تغيير آليات تفكيرنا، فنفهم وندرك أكثر وبالتالي نعي أنفسنا أكثر، لنواجه لاحقاً كل ما سبق أن هيّأه لنا آخرون لا يريدون لنا نهوضاً ولا وعياً، لأننا سننقلب عليهم بالضَّرورة.

هذا الهجوم الضاري تجاه أبرز المُفكّرات عربيّاً وعالمياً، ما هو إلّا قبراً جديداً للإنسانية تشارك بحفره مخالب كل أعداء الإنسانية والفكر التنويري والتحرّري في العالم أجمع، أما آن الأوان لنفهم أن رحيل جسدٍ لا يعني موت فكر؟ ألم يسبقها فرج فودة وغيره كُثُر في رحيلهم الجسدي عن هذا العالم بينما افكارهم ورؤاهم لا تزال حتى يومنا هذا وستبقى للأبد منارة لمن يريد أن يحمل الشعلة ويكمل المسير؟

نوال السعداوي، المُترّفعة عن كل الألقاب إلاّ لقب الإنسان الحر.. نامي اليوم قريرة العين، فمهما طالتك حجارتهم، فستبقى ثمارك ونتاجاتك الفكرية موئلاً لكل الأحرار الرافضين لكل ما هو مُعدٌّ سلفاً، لكل سواد غايته حجب نور الشمس عن الروح والقلب والعقل، ولكل تحجّر وتقوقع وتخلّف.

العدد 1104 - 24/4/2024