دينمو الحركة النسوية.. مانديلا العصر
أنس أبو فخر:
لم تكن تملك سوى الصراخ والدموع اليتيمة، في منزلٍ قروي وسط بلدة يسكنها الجهل على هيئة بشر، أمام ذلك الإجرام الذي تجسّد في سكينٍ ألبسوه ثوب الشرف المزعوم، شوّه فرجَها تحت ذريعة (الختان)، تلك الصغيرة التي اغتصبوا طفولتها وصباها ومشاعرها أيضاً، لم تكن تعلم ما الذي حصل، سوى أنها كسبت رضى أهلها وأهل البلدة البعيدة.
في إعلان وفاتها غرّد على الموقع الشهير (تويتر) أحد أبرز النشطاء الأمريكيين، فقال: (لقد خسرنا نيلسون مانديلا من جديد)، لم يأبه ذلك الناشط باختلاف العرق أو الجنس أو الهوية، فقد كان المقصود في هذه العبارة شخصاً واحداً، ثائراً حقيقياً ومناضلاً مبدئياً، وكل هذا يدل على اسم واحد هو (نوال السعداوي).
من بلدة كفر طحلة أطلقت أوّل صرخة لها في وجه مجتمعها، في البلدة التي سُلخت فيها قطعة من جسدها، والبلدة عينها التي تحوّلت فيها إلى أُمٍّ تهتم بإخوتها التسعة بعد رحيل والديها مبكراً، ومنها انطلقت لمواجهة هذا العالم العنيد، عابرةً في كلية الطب ورافعة في يدها مشعل حقوق المرأة والإنسان، مُمثلةً، في العديد من الدول والمؤتمرات، المرأةَ العربية التي كانت خلالها تناهض في سبيل حرية المرأة خصوصاً في العالم الإسلامي.
السعداوي (دينمو) الثورة النسوية
لمجرّد الحديث عن الحركة النسوية، التي ازداد نشاطها خاصة في الآونة الأخيرة، فلا بدّ من التوقّف عند المُلهمة الأولى لهذه الحركة، وليس من المبالغة إن وصفتها بأنها الأم الروحية لهذه الحركة والملاك الحارس لكل مناهضة وثائرة في سبيل حريتها وحقها في المساواة.
المرأة الحديدية التي امتلكت من الجرأة ما لا يمتلكه الرجال، في تمرّدها على الواقع وعلى مجتمعها، وهذا في الحقيقة ما ينقص المرأة العربية، فمحاربة نوال السعداوي من قبل الحكومة والمجتمع المصري خاصة والعربي عامةً، لم يكن محاربة لشخص فقط، بل كانت محاربة لفكر ولثورة، وبالتالي تسابقت المخابرات المصرية منذ أن أطلقت السعداوي أولى كلماتها في جريدة رسمية في مصر، على اعتقالها دون سبب منطقي وواضح وذلك في عام 1974، وتلا هذا الاعتقالِ اعتقالٌ آخر وتهديدات، بالتزامن مع فتاوى الدعاة والشيوخ، فقد هرع كثيرون لتكفيرها وتحقيرها وزرع عداوة في الشارع اتجاهها، فكل هذا كان ليس فقط لمحاربة نوال السعداوي، إنما في ما تمثّله نوال من ثورة وفكرة وموقف قلّ نظيره في عالم المرأة العربية، ثورة ما إن انفجرت حتى تهدّمت كل أصنام الفكر والجهل من حولها.
وقد حملت نوال كلّ أوجاع المرأة العربية، فهي التي عُنّفت جسدياً وجنسياً ونفسياً، واحتُجزت في أروقة السجون لحقّها في الكلام، وعُنّفت من مجتمعها الذي تبرّأ منها فيه القريب قبل الغريب، ولكن كل هذا لم يكن سوى صقلٍ لحدّي سيفها.
وهذا ما انعكس على الحركة النسوية بشكل واضح، إذ استلهمت هذه الحركة من نوال السعداوي القوة والجرأة، اللتين كانتا تنقصانها في مواجهة النقيض لها في مجتمع لا يرى المرأة إلّا دميةً جنسية للمتعة وجارية تُباع بالمهر كما كانت تُباع في سوق النخاسة.
لماذا أرعبتهم نوال، في حياتها ومماتها؟
فتحت مقاومة الراحلة (نوال السعداوي) أبواق منابر الجهل وإقصاء الآخر عليها، وشكّلت بأفكارها المثيرة للجدل، كما يراها البعض، زلزالاً تحت عروش التعصّب الخاوية، والتي لا تمتلك سوى الرفض والتكفير، ولكن يبقى السؤال الأبرز لماذا نوال تحديداً؟
في حقيقة الأمر قد لا تكون المناضلة الراحلة الوحيدة التي تعرّضت لهذا الكم الهائل من المحاربة، سواء فكرياً أو دينياً أو اجتماعياً، ولكنها كانت صاحبة الحظ الأوفر منها مقارنة بالمناضلات حولها في عالمنا العربي والاسلامي، لأنها لم تكن تمثّل المرأة فحسب، بل تمثّل النقيض الأخلاقي والإنساني لهذه الفئة من المجتمع غير الأخلاقي وغير الإنساني، فقد كانت مناهضة لكل أساليب التحقير والتقليل من شأن المرأة، ورافعةً صوتها مؤمنة بقدرة المرأة على تحرير وطنها وجسدها ومستقبلها، في حين أن السواد الأعظم من المجتمع يرى المرأة عورة وناقصة عقل ودين، كانت ضدّ أعمال العنف التي يتعرّض لها الانسان العربي سواء كان رجلاً أو امرأة أو طفل، وفي المقابل يعطي هذا المجتمع سلطاناً للرجل على المرأة، ويسمح بزواج القاصرات، ويتيح للرجال إهانة المرأة بشتّى الأشكال سواء في تعدّد الزوجات أو في التعنيف الجسدي وغيرها من الأشكال.
وبالتالي لم تكن محاربة (السعداوي) محاربة لنصر فكرة، أو طمس صوت وحقوق، أو انتصار في مناظرة ثقافية، بل كان ذلك بالضرورة إخفاء لعورة عقولهم الساذجة والجبانة، وبالتالي لم تكن نوال السعدواي خطراً بمفردها، بل كانت ثورة النسوية التي تكلّمت وتجسّدت في إنسانة واحدة.
وعليه فإن كل ما حدث قبل رحيلها وبعده من تشويهٍ ومناظرات، وإجبارها على الدخول في صراع الدين الجدلي، لم يكن سوى الوسيلة الوحيدة لفصلها عن حاضنتها وتحويلها من مدافعة عن حقوق الإنسان إلى مُلحدة تجرّح الأديان ومن يؤمنون بها، وهذا إن أردنا تشبيهه فلا أجد وصفاً يليق به سوى عقلية الخنزير، الذي لا يستطيع التغلّب على فريسته إلاّ عندما يستجرّها لمستنقعه، وهذا ما فعله التيار المناهض لكل أشكال الحرية، فقد عمل ومازال يعمل على استجرار أمثال الراحلة إلى مستنقعهم، ليتساووا معهم في درجة القبح والجهل وتبادل الحقد.
في نهاية المطاف، نوال السعداوي لم تكن ولن تكون الأولى ولا الأخيرة، فمن كل رحم تولد نوال، وفي كل يوم تموت نوال، لا الثورة انتصرت ولا الجهل انتهى، وخير ما يلخّص حياة كل إنسان حرّ وذي مبدئ ما قالته السعداوي في معتقلها الأول: (لقد أصبح الخطر جزءاً من حياتي منذ أن رفعت القلم وكتبت. لا يوجد ما هو أخطر من الحقيقة في عالم مملوء بالكذب).