نقاش حول الثقافة

يونس صالح:

من أصعب المفاهيم المستعصية على الشرح البسيط في العلوم الاجتماعية اليوم مفهوم (الثقافة)، فهذا المفهوم واسع ومتعدد الجوانب، ويحار الكثيرون في تحديد معناه بدقة في أذهانهم عند الحديث عن (الثقافة).

قد يتبادر إلى الذهن أن الثقافة هي المعلومات العامة، أو فهم الفنون بأشكالها المتعددة وتذوّقها، أو هي معرفة فرع أو أكثر من فروع المجالات الأدبية أو الاجتماعية.

قد تعني الثقافة عند بعضهم وجود الكتب والمجلات أو نشرها، وقد تعني عند آخرين إقامة مباني المسارح وصالات السينما، وقد تعني عند فريق ثالث وجود المعارض الفنية، وعند فريق رابع قرض الشعر وحفظه.

كل هذه المعاني صحيحة، وهي خاطئة في الوقت نفسه، إذا كنا نعني بها الثقافة، فما هي الثقافة إذاً؟

لقد تعددت المفاهيم واتسعت لمعنى الثقافة، حتى أصبحت تعني مرادفاً آخر هو المجتمع بكل ما فيه وما يعنيه.

هناك اليوم الكثير والكثير جداً من التعاريف للثقافة، بعضها جامع شامل وبعضها محدود.

ولكن لنبدأ أولاً بتحديد الإطار العام لمعنى الثقافة.

يوجد إطاران في هذا المجال، أو ما اتفق على تسميته بالإطار العام أو المعنى الواسع للثقافة، وهو كل ما ينتجه مجتمع ما من إنتاج مادي ومعنوي، أي كل منتجات الإنسان في حياته اليومية العملية والترفيهية، هو الثقافة لذلك المجتمع، أو لتلك المجموعة الإنسانية، والمعنى الآخر هو المعنى الضيق للثقافة، ويعني ما ينتجه الإنسان في مجتمعه من نتاج فكري وأدبي، وهذا هو المعنى الشائع للثقافة.

ولكن في إطار المعنى الأخير يمكن أن يتحول منتج فكري ما إلى واقع مادي، كأن يتكون لدى فرد أو بعض أفراد مجموعة من الأفكار السياسية أو القانونية أو العلمية وتتحول هذه الأفكار في وقت لاحق إلى شيء مادي.

فهناك إذاً حتى في المفهوم الضيق للثقافة إمكانية التبادل بين المفهوم الواسع والمفهوم الضيق، أو العلاقة الجدلية بين المفهومين.

ومن جهة أخرى يعاني مفهوم (الثقافة) لدى كثيرين عندنا من خلط بين الفكر- من حيث هو نشاط عقلي مميز، و(الأدب) من حيث هو نشاط فكري ذو طابع رمزي، ومن الصعب أن يكون هناك تفريق دقيق بين المفهومين، إلا أن الفكر يغلب عليه تناول قضايا المجتمع بشكل مباشر، أما الأدب فيغلب عليه ثقافة الرمز كما في القصة القصيرة أو الشعر أو الرواية. والفكر يمثل في مجتمعنا بشكل عام مكاناً ثانوياً في الثقافة بعد الأدب أو النقد.

لقد حاول رواد الثقافة المعاصرة في البلدان العربية أن يحددوا إطاراً شاملاً للثقافة، فظهر هناك اتجاهان لا يخلوان من الفروع الجانبية.

الاتجاه الأول هو نقل الثقافة الأوربية الحديثة الغربية بشكل عام ومحاولة تبنيها بكل أبعادها، فظهر دعاة لتلك الثقافة حتى تعددت اجتهاداتها ومدارسها الغربية، والاتجاه الثاني هو محاولة المواءمة القسرية بين التراث العربي ومعطيات الثقافة الحديثة، فجاء هذا التيار انتقائياً إلى أبعد الحدود.

ولصعوبة تحديد مفهوم الثقافة وتعدده، نجد أن اليونيسكو قد حددت مفهوماً للثقافة يقول إن (الثقافة بمعناها الواسع يمكن أن ينظر إليها اليوم على أنها جماع السمات الروحية والمادية والفكرية والعاطفية التي تميز مجتمعاً بعينه، أو فئة اجتماعية بعينها، وهي تشمل الفنون والآداب وطرائق  الحياة، كما تشمل الحقوق الأساسية للإنسان، ونظم القيم والتقاليد والمعتقدات).

وتفسر اليونيسكو بعد ذلك الثقافة تفسيراً إجرائياً فتقول:

(إن الثقافة هي التي تمنح الإنسان قدرته على التفكير في ذاته، وهي التي تجعل منه كاتباً يتميز بالإنسانية المتمثلة في العقلانية، والقدرة على النقد والالتزام الأخلاقي، وعن طريقها- أي عن طريق الثقافة- نهتدي إلى القيم ونمارس الاختيار، وهي وسيلة الإنسان للتعبير عن نفسه، والتعريف عن ذاته كمشروع غير مكتمل، وإعادة النظر في إنجازاته، والبحث دون توانٍ عن مدلولات جديدة وإبداع وأعمال يتفوق فيها على نفسه.

من هنا نتبين أن الاهتمام بالثقافة بمعناها الواسع يعني الاهتمام بالعدالة العالمية والسلم العالمي وحقوق الشعوب والأفراد في الديمقراطية والتنمية وغيرها.

من هنا يأتي تأكيدنا السابق أن الثقافة تعني المجتمع- تعني كل ما ينتجه المجتمع من إنتاج مادي ومعنوي، كما يعني تأثير ذلك المجتمع أو تلك المجموعة الإنسانية على غيرها في الإنتاج المادي والمعنوي وتأثرها به.

فالثقافة السائدة في مجتمع ما تعني كما رأينا في التعريف العالمي هي السمات الأساسية الروحية والمادية والفكرية التي يتميز بها مجتمع ما أو جماعة ما.. هذه السمات الأساسية هي التي تميز ثقافة من ثقافة أخرى، وهي التي تعطي النتاج المادي والفكري خصوصيته وتفرده.

إن محاولات توحيد النموذج الثقافي، لأسباب سياسية أو عقائدية، هو قتل وتدمير للثقافة وليس تطويراً لها.

توجد هناك ثقافة وطنية وثقافة إقليمية (داخل الوطن الواحد) ويوجد هناك ثقافة غير وطنية (مشتركة خارج الإطار السياسي)، وتوجد كذلك ثقافة ذات قنوات عالمية، فعالم اليوم شديد التعقيد، سريع الاتصال، لا شك أنه تخطى الكثير من الجدران التي كانت إلى وقت قريب تحيط بالثقافات الوطنية.

ومن مجمل تعريفات الثقافة نجد أن هناك علاقة وطيدة بين (الثقافة) و(التربية والتعليم) وعلوم الاتصال الجماهيري، والأخيرتان جزء لا يتجزأ من الثقافة بمعناها الواسع.

ولقد خضعت مسيرة التعليم وتطوره إلى مناقشات عديدة من قبل المفكرين عندنا، منذ أن شهدنا ما يعرف بالتعليم الحديث.. إلا أن معضلة المواءمة في التعليم بين النقل والاستنباط بقيت قائمة، وقد لخص أحد المفكرين ذلك بقوله (إن اليابان وقفت من الحضارة الغربية موقف التلميذ ووقفنا منها موقف الزبون، استوردوا منها الأفكار بوجه خاص واستوردنا نحن منها الأشياء بوجه خاص).

لم تعد المدرسة هي الموزع الشرعي الوحيد للمعرفة في عالم اليوم، فأصبحت أجهزة الاتصال الجماهيري تنافس المدرسة في التثقيف.

لقد ساعدت وسائل الاتصال الحديثة على غربة الإنسان السوري الثقافية أكثر مما قربته إلى وعي ذاته الجديدة.

لقد أصبح الاتصال الجماهيري في العالم يخضع لصناعة ضخمة، يمكن أن تسمى (الصناعة الثقافية) تملكها شركات غير وطنية، وهي صناعة تسيطر عليها التكنولوجيا المتقدمة ولسنا نملك منها إلا القليل.

وبعد، إن هناك معادلة صعبة تواجهنا اليوم، هي معادلة الثقافة بشقيها: التعليم والتربية، ووسائل الاتصال الجماهيري.

وما ردة الفعل البطيئة أو غير المكترثة للأهوال التي نلاقيها اليوم إلا جزء من الانهيار الثقافي الأكبر، ولقد فهم عدونا أهمية الثقافة فعمل على تهديمها.

العدد 1104 - 24/4/2024