رسالة اعتذار (رسائل لم تُرسل بعد)
غزل حسين المصطفى:
_إلى عمر العشرين، الّذي عاهدتُ نفسي أن أخرج منه وفي جعبتي الكثير من التَّجارب، لم أخلف بوعدي، لكنَّ تجاربي كانت مع الموت، الفقد، الحزن، والحرب.
أعيش حالة الأب الذي يبيع واحداً من أولاده ليُعيّش البقيّة، أنا اليوم أُضحي بحلمي ليكمل قلبي مسيرة نبضه الأخيرة بسلام، من غير همومٍ وأثقال.
_إلى حلمي، الّذي سمعت صوته للمرة الأولى في عامي السابع، حين صرخ بين دفاتري معلناً ولادته بين جوانحي، إشاراتي الحيويّة معك شبه متوقّفة إلاّ ذلك الفعل اللاإرادي (التّنفس) مازال يبقيني ضمن السجلات المدنية الرسمية (على قيد الحياة)، ولكنني ما زلت تلك الطفلة التي عهدتها يوماً كانت تُضاحك الغيم وألوان السعادة، عصفت بها الحياة اليوم، فشاخ القلب منها حين كانت تنتظر على أحد مواقف الباص والبؤس يلفُّ المكان ويُلطّخ كل الوجوه حولها، فأصبحت إنساناً في كفنٍ من موتٍ غسّلوه بالذلّ والقهر والعذاب.
_إلى ياسمين دمشق، الّذي حملته بين خصل شعري وفي شراييني، كنّا نتسابق في الركض بين أزقّة الشوارع العتيقة، عاهدته أن أكون الابنة البارّة فلا أجافيه، وأن تبقى تلك الأزقة محجّي والمُعتمر، أُعمّد بسربٍ من حمام، أنا اليوم أبحث عن طوق نجاة وفرصة هروبٍ أو سفر، حتّى إنني قد أترك ذاكرتي المشوّهة هنا.
_إلى ابنتي (جوى) حلمت باللقاء الأول بيننا مراراً وتكراراً، فعلت لأجلنا الكثير، ورسمت الدرب معك ولوّنت الأيام، يا بضعةً منّي قد لا تلجُ الحياة، فأنا منهكة من إكمال المسير، كيف أحكم عليكِ بأن تصيري عُكازي في بلادٍ غارقة بدمائها تنازع، لن تنالي فرصة حياة هنا؟!
اعذريني أنا أسأل مصلحتك.
_إلى قلبي، الذي تمزّق بكاءً هنا، كنت أتمنى أن ترفرف لأوّل حبٍ بكل سرور، تراقصك أحرف (أُحبّكِ)! أن تستقبل الحياة بوجهٍ مشرق، لكنّ قذائف الظروف والأوضاع مزّقتك فما غامرنا بحبّ، ولا تُهنا على مرج الطفولة والضحكات البريئة.
إلى مبادئي، الّتي قلت لأجلها يوماً، سأُفني حنجرتي في الذود عن الحقيقة والعلم، وإن مُتُّ فقولوا إن صبيةً في العشرين من عمرها حملت الوطن في قلبها وتمسّكت بحبال الله في نشر الرّسالة وتصحيح المعلومة والمفاهيم. عذراً، ففي صباحٍ ما، قد بعتُ القضية لأشتري بثمنها حنّاء لشعري الذي حلّ المشيب ضيفاً ثقيلاً مقيتاً عليه بشعرتين في الأصداغ.
وأيُّ القضايا أحقّ من نفسي بنفسي وشبابي؟!
إلى مقالاتي، ومسمّاي (صُحفيّة) إلى النّور الأوّل الذي أمسك بيدي وأعطاني قلماً وجريدة لأصوغ حكاياتي، وأرسم الطريق، حرّةً قويةً بأفكاري، بكلِّ شغفٍ وكما أُحبُّ، قد خبا قنديلي، وشاخ الحرف في لغتي، أضيع اليوم في وطني، فلا الحب يُنجده ولا الضماد يسعفه، أتنقذه سلاسل من المعلّقات والكتب؟!
التاريخ هنا بات مشرّداً مشوّهاً رثّ الثياب، والجغرافيا ثكلى تنوح شتات أولادها في بقاع الأرض.
أين سيكون موقعي من كلّ ذلك؟!
من سيرى غزل ويسمع نداءها؟!
من سيترك كلّ ذلك ليمسح على روحي، ويواسي كتاباتي؟!
أأعتزل الحرف والقلم؟!
عذراً إن قعدتُ كغريبة على جانب الحدث أنوح بصمت، أضم مشاعري ورأيي إلى حضني ونسهر بصمت، بُحَّ الصوت منّا نداءً للحق والسلام، وحده صوت الجوع ما يطرق أبواب مدينتي.
الشباب منّا هرمٌ، يحمل كيساً من أدوية القلب والضغط، عوضاً عن أحلامه.
_إلى حقيبة سفري الّتي أُحضّر، أن أغنم بمقعد على متن الطائرة يضاهي انتظاراً ومستحيلاً غنيمتي بمقعد في باص التَّنقّل اليومي، أدرك بُعد الفكرة وربما استحالة تحقّقها، أقسم إنني كنت أُحب كلّ شيءٍ هنا، لكن الأماكن أقفرت والترحال سيّد الموقف، أدرك أنني سأبكي الأطلال ما حييت، لن يُخضّب بناني كما العامريّة، بل ستتخضّب روحي وربما تموت شوقاً، لكن ما من خيار متاح أمامي إن أردت استئناف رحلة الحياة الّتي أُعطيت لي.
أدرك أن الحنين والشوق موتٌ آخر، لكن الذلّ والقهر والبرد موت أشنع!
أدرك أن الوطن هو المعشوق الأوّل، لكن ماذا إن لفظتني بلادي على قارعة الطريق بلا روح؟!
إلى كلّ من سيقرأ كلماتي هذه، اعذروا سوداويّة الحروف، لكنَّ دخان الحرب مازال عالقاً فينا، وروح الموت تقمّصت فينا، إن عاد الربيع إلى بلادي وغرّد طير واحد، ولاح طيف السلام، فسأرمي حقيبتي وأبقى هنا أداري بلادي برمش العين وأنامل الروح وبكلّ حب، قراري ليس نهائياً، ووجعي وإن عظم فهناك حبٌ يسري في شراييني، يشدّني بكلّ قوة لأجازف وأقاوم.
إلى وطني.. أحبك، ولكن اعذرني، سأُسأل عن شبابي فيما أفنيت، باركني وصلِّ لأجلي.
إنه ليس الوداع الأخير، لكنها رسالةٌ من رسائلي لم ترسل بعد.
ربيع كان للقلب صحراء
دمشق 20 آذار 2021