هل سنشاهد مراجعات تؤسس لنهوض عربي بعد انطلاق قطار التطبيع؟

محمد علي شعبان:

لن أفشي سراً، ولن أرتكب جريمة لو قلت: إن الأمة العربية بشكل عام، ذاهبة في طريقها للانقراض ما لم تُعِد النظر بالمتغيرات التي تحصل في العالم، وما لم تُجر العديد من المراجعات وتتخذ الإجراءات الضرورية على نهجها المتبع في إدارة شؤونها منذ سبعة عقود من الزمن، بعدما احتل الصهاينة فلسطين، فهي مهددة بالانقراض من اتجاهين.

الأول: رغبة معظم دول العالم وخاصة الدول الاستعمارية التي استعمرت بلداننا العربية في انقراض هذه الأمة وتشظيها، بسبب أطماع تاريخية عمرها آلاف السنين بثرواتها، إذ إن دول العالم الاستعمارية محكومة بالسفهاء الذين يبيدون شعباً بكامله لقاء مكاسب خاصة، وحكام تلك الدول يتميزون بعداء واضح وصريح لحكام الشعوب والأمم التي ترفض الانصياع لأوامرهم، لذلك لجؤوا إلى صناعة حكام حققوا لهم ما أرادوا على كل الاصعدة.

الثاني: منظومات الحكم التي حكمت المنطقة العربية بعد سايكس بيكو، واستمدت شرعيتها من قوى العدوان التي ساهمت بصناعتها، وقدمت لها جل الخدمات لتضمن ولاءها لها مقابل البقاء على كرسي الحكم. إذ أُضعفت قدرة الشعوب وتم إشغالها بتناقضات وصراعات منعتها من التطور واللحاق بالشعوب المتقدمة.  لقد رفعوا شعارات الوحدة العربية، ووضعوا جميع العراقيل لمنع تحقيقها، ونادوا بالاشتراكية واعتقلوا الاشتراكيين وحاصروهم، رفعوا شعارات التحرير، وحاصروا حركات التحرر، هللوا للعروبة، وكرّسوا الطائفية، والمذهبية. حاربوا العلم، واعتنقوا الخرافة، وعززوا عقلية القبيلة والعشيرة ومنعوا النقد، وحاربوا المحتج والمعترض وألغوا العقل لصالح النقل.

جميعكم يعرف أننا في زمن يغيب فيه العقل، وتحضر الخرافة وثقافتها، ويحارب العالم والعاقل، ويطلق اسم علماء على شيوخ الفتنة، وتخصص لهم المنابر لنشر سمومهم التي تقوم على تكفير الآخر وشرعنة تهجيره، أو قتله وإشغال الأجيال الحالية بترّهات وأساطير الماضي وتخديرهم بأحاديث تفتقد للمصداقية، واعتبار المبدعين والمجتهدين كفرة، إذا تعارضت آراؤهم مع تلك الأساطير التي تفضي إلى إلغاء العقل، وإعطاء الحاضر الشرعية من الماضي الأسطوري، والدعوات للعودة والامتثال للسلف الصالح الذين قدموا النموذج الحقيقي للاستبداد بالرأي ومحاربة الرأي الآخر، ومنع الحريات بأشكالها المختلفة باعتبارها تخالف النصوص التي كتبوها وفرضوا على الآخرين تقديسها ولا يجوز النقاش فيها.

هذان العاملان، وعوامل أخرى عديدة لا مجال لذكرها الآن، وجميع الانعكاسات الناجمة عنها، شكلت أجواء غير صالحة وغير صحية للنهوض بأمة تمتلك جميع مقومات النهوض وتعيش على بقعة جغرافية من أغنى بقاع الأرض في العالم، وتحكم بمنظومات حكم أوصلتها للحضيض.

جميع المهتمين بالشأن العام يعرفون أن شعوب هذه البلدان بلاؤها كبير ومهمتها صعبة على الصعيدين الخارجي والداخلي، وتحتاج إلى نهضة جديدة بأدوات وطرق وآليات جديدة.

فهل حان الوقت لتعترف الشعوب أمام نفسها وأمام الأجيال الجديدة أنها باعت نفسها لطغاتها بثمن بخس؟!

وهل حان الوقت ليعترف حكامها وأدواتهم التشريعية من رجال دين ومؤسسات دينية أنهم مارسوا التجارة بأبشع حالاتها على من سلموهم مصيرهم ووثقوا بهم!

إذ جددوا عهد العبودية بشكل آخر عما كان سابقاً، وبرّروا للطغاة في العالم استباحتهم مقابل بقائهم على كرسي العرش، وأطلقوا العنان لرجال الدين، وحاصروا المفكرين والأدباء وانتشرت المحسوبيات والرشاوي، وسادت لغة التمييز بين الإنسان وأخيه الإنسان، وزرعت التفرقة بينهم التي تشكل الأرض الخصبة للاستثمار من قبل أطراف خارجية تحقق من خلالها مشاريعها التوسعية، وتعمق التناقضات بين أبناء الوطن الواحد، مقابل حصول رجال الدين ومؤسساتهم على حصة الأسد من الثروة والحصانة.

فهل يتنبه الشعب العربي لخطر ما يدبر ويحاك من قبل الدول الاستعمارية وأدواتها المنتشرة في العالم العربي؟

وهل تتنبه الحكومات والسلطات العربية أن الشرعية لا تأتي من خارج الحدود؟!  وإن جاءت ستكون محملة بأقسى الشروط التي تجعل الحاكم يرضي الخارج على حساب الداخل؟! وأن بناء الأوطان لا يتم من خلال الاعتماد على الشركات العابرة للقارات، ولا من خلال المؤسسات الدولية كصندوق النقد الدولي وغيره؟!

إن جميع المؤسسات الدولية عملت وتعمل من أجل الدول الاستعمارية التي أنشأتها وتحقق من خلالها التضييق والحصار على الدول والحكومات التي لا تمتثل لأوامرها.

وما دامت هذه المعادلة قائمة فحالة الشعوب من سيّئ إلى أسواأ، والفقر والمجاعة تزداد يوماً بعد يوم.

إن الصراعات القائمة في معظم البلدان هي صراع بين السيئ والأسوأ، بين راس مال متوحش يريد التحكم بلقمة عيش البشر وبعدد ذرات الأكسجين التي يحتاجها الفرد الواحد، باعتبارها ملكاً لرأس المال، بحكم القانون الجائر الذي كرسته الرأسمالية المتوحشة خلال ثلث قرن من تفردها بالتحكم بالقرار العالمي، ورأسمال أقل وحشية الآن، مع اعتقادي الشديد أنهما سيلتقيان في نهاية المطاف.

إذ إن النقيض الحقيقي للوحش الرأسمالي لم يعبّر عن وجوده ولم يظهر بعد، رغم أن قوى صف العمل في جميع البلدان في حالة احتقان شديد، قد يتحول إلى غضب في وقت قريب، بعد أن ضاقت البشرية ذرعاً بالنظام العالمي المتجبّر.

وما دام الصراع بين الدول الاستعمارية قائماً على أراضي الشعوب الفقيرة وعلى ثرواتها، إذ تحول شبابها إلى مرتزقة يدفعون دماءهم لصالح الوحوش الرأسمالية، مجبرين على ذلك بسبب الفقر والبطالة والحرمان، فهل ستنهض أمة بأدوات أوصلتها للهاوية، وبنهج حول شبابها إلى مرتزقة رغم الثروات المنشرة على مساحة الوطن العربي؟!

جميع المتغيرات التي تحصل هنا وهناك تستدعي الوقوف والتأمل. وتستدعي المراجعة لسياسات الدول التي لم تحقق نجاحاً واحداً، لصالح شعوبها رغم الثروات المتوفرة لديهم.

لقد حققت نجاحات بقهر شعوبها وتجويعهم، ودفعتهم للهجرة بحثاً عن لقمة العيش كما حققت نجاحات كثيرة لصالح الكيان الصهيوني، وبددت ثروة الأمة لخدمة أعدائها، فهل ستبقى الشعوب العربية ونخبها السياسية والثقافية رهينة لهذه الأقدار؟!

ليس طبيعياً أن تبقى أمة تمتلك جميع مقومات النهوض تنتظر النهوض على أيدي من لا يريدون لها أن تنهض.

العدد 1104 - 24/4/2024