كارثة القرن الحادي والعشرين

يونس صالح:

حتى لا يفاجئنا الغد، يهتم العالم بشكل متزايد بما يسمى دراسات المستقبل، وهي دراسات لا تنبع من فراغ، ولا تبتعد كثيراً عن الواقع، وإنما تبدأ منه لتستخلص النتائج والتنبؤات وتساهم في صياغة السياسات، وهناك العديد من الدراسات حول هذا الموضوع الهام قامت بها منظمة العمل الدولية، وقد اجتمعت كلها على التأكيد أن العالم سوف يحتاج إلى توفير ملياري فرصة عمل خلال الأربعين عاماً القادمة، وبمتوسط سنوي مقداره حوالي 50 مليون وظيفة.

الرقم ليس صغيراً، فتعداد العالم في الوقت الراهن يقترب من سبعة مليارات نسمة، لذا فإن دخول ما يقرب من مليارين من البشر إلى سوق العمل ليس أمراً يسيراً، بل يكاد يقترب من الحجم الحالي لفترة العمل التي لا تتجاوز 2200 مليون نسمة، وفقاً لتقدير منظمة العمل الدولية.

خطورة الأرقام تأتي من تركّزها في العالم الثالث، إذ تأتي آسيا في المقدمة، وتليها إفريقيا ثم أمريكا اللاتينية.

قد يتصل ذلك بنسبة السكان المرتفعة في القارات الثلاث، وقد يتصل في الوقت نفسه بتركيب السكان، ودخول نسبة عالية منهم فيما يسمى (سن العمل). لكن المهم أن مجال السبق، وربما مجال الأزمة، سوف يكون أكثر وضوحاً في العالم الثالث، ويتوقع البنك الدولي أن يشهد نمواً في قوة العمل في حدود 2.5 بالمئة سنوياً، في مقابل نصف في المئة فقط في الدول الصناعية المتقدمة، فكيف يواجه العالم الثالث هذه الحقائق؟

إذا جاءت الإجابة من الغرب، أو ممن تلقوا تعليمهم في الغرب، فإنها ستتجه على الأرجح إلى معادلة تقول: (لكي نزيد من الاستثمار فلا بد من أن نزيد من الادخار وتراكم رأس المال). وباختصار سوف تكون مشكلة رأس المال هي الأساس.. وسوف يكون الغرب، ببنوكه ومؤسساته المالية وحكوماته الثرية، هو الملاذ، وإن كان لذلك صعوبات أيضاً، ولكن هل تتركز مشكلة العالم الثالث في ندرة رأس المال، فإذا توفر أتيحت التقنية وتوفرت الآلات، وأقيمت المشروعات وحُلّت مشكلة العمالة الجديدة ومعها مشاكل الفقر والنمو المتباطئ؟

الأمر ليس على هذا النحو، صحيح أن رأس المال في دول محدودة الدخل يمثل مشكلة.. لكن الوجه الآخر، والأهم لهذه المشكلة هو نمط التنمية الذي نريده ونمط الحياة الذي نبنيه.

نوعان من التنمية:

لقد مارست الدول النامية التنمية، بدرجة أو بأخرى، ولكن معظم هذه الجهود كانت امتداداً لما يحدث في الغرب وتقليداً له.

يبدأ الأمر بأنماط من الاستهلاك تحاكي العالم المتقدم.. ويبدأ باستيراد كل شيء.. من السيارة إلى الطائرة وعلبة اللحوم المحفوظة والتلفزيون الملون.. وينتهي الأمر بخطط للإنتاج تحاول أن تفي بحاجة هذا الاستهلاك، ويبدأ أيضاً باستخدام الآلات الصغيرة التي توفر الجهد لسيدة المنزل وسكرتيرة المكتب، وينتهي باستخدام الآلات الكبيرة التي يحكمها العقل الإلكتروني ويديرها خبراء من الطراز الأول.

إنه نمط متكامل (وارد من الخارج) وهو نمط له تكلفته لأنه الأحدث ولأنه يسبق تطور المجتمع وإمكانياته، وإذا كان هناك نوعان من المشروعات: نوع يكثف رأس المال بمعنى أنه يحتاج إلى تقنية معقدة ورأس مال كثيف، ونوع يكثف العمل ويزيد فرص العمالة.. إذا كان هناك هذان النوعان، فإن نمط التنمية السائد كثيراً ما ينحاز في العالم الثالث للنمط الأول الأكثر تعقيداً والأقل استخداماً لقوة العمل.

ربما يكون ذلك بسبب عقدة التخلف والتقدم.. أي أنه كلما حصلنا على الأكثر تقدماً صعدنا في سلم الحضارة.. أو هكذا يجري الاعتقاد، وربما يكون الأمر بتشجيع من الطرف الآخر، فالذين سبقونا في التقدم ويسبقوننا الآن في النهج وتقديم تجربتهم وخبراتهم، يؤثرون دون شكل تصدير ما لديهم من آلات وسلع ومن فنون إنتاجية تعرف باسم (التقنية).

صحيح أنهم يحتفظون بمسافة بينهم وبين العالم الثالث، لكنهم يجذبونه وراءهم بما يجعله سوقاً دائماً لمنتجاتهم، سواء كانت سلعاً مادية أو إنتاجاً ذهنياً.

وعلى العكس فإن هذه الدول المتقدمة لا تجد لنفسها مصلحة في تنمية مستقلة للعالم الثالث.. تنمية تعتمد على تقنية هي من ينتجها، ومشروعات مكثفة للعمال مستخدمة المتوفر والمناخ في البيئة.

السببان إذاً قائمان، نمط التنمية الذي يختاره قادة العالم الثالث، ونمط العلاقات الذي يربط هذا العالم بالعالم المتقدم.. ويتصل بالأمرين نمطُ الحياة التي نرغب والمستقبل الذي تبني.

وإذا أخذنا بالاعتبار بقية العوامل، إذا عرفنا أن ما هو أكثر من نصف العالم يدخل فيما تسمية المنظمات الدولية (الدول منخفضة الدخل) وإذا عرفنا أن نسبة النمو في بعض بلدان العالم الثالث قد أصبحت سالبة حالياً، أي أن متوسط الدخل والمعيشة فيها ينخفض.. وإذا أضفنا حقيقة أن (73%) من قوة العمل في الدول منخفضة الدخل تعمل في الزراعة.. مقابل (6%) فقط من المشتغلين في الدول الصناعية المتقدمة، وإذا عرفنا كل ذلك لأدركنا أن مشكلة الأيدي الجديدة التي تتطلع إلى العمل في العالم الثالث قد تتحول إلى كارثة اجتماعية واقتصادية.

السؤال عن أحوالنا في العالم الثالث: ماذا نحن فاعلون؟

ونقول: الأمر على هذا النحو يمكن أن يكون (كارثة القرن الحادي والعشرين) أعتقد لا حل إلا بمراجعة واسعة لأسلوب الحياة، ونمط التنمية، فالغرب ليس هو النموذج، والأحدث من السلع والأفكار ليس هو الأفضل في كل الحالات.

العدد 1102 - 03/4/2024