قرصنة الأمريكيين في الأسواق (المفتوحة)

بشار المنيِّر:

لم يعد الهدف هو الاتحاد السوفييتي.. لقد انهار جدار برلين، وانهارت معه حقبة طويلة اتسمت بحرب باردة بين القطبين الرئيسين، وتحول العالم من ثنائية القطب إلى عالم القطب الأوحد، لكن نظام المراقبة (التجسس) الذي أقامته الولايات المتحدة وبريطانيا، وفيما بعد كندا وأستراليا ونيوزيلندا، لمراقبة عمليات التسلح العسكري للاتحاد السوفيتي، الذي اصطلح على تسميته بكلمة  (إيشيلون) (ECHELON) لم يُحَلْ على التقاعد، بل تحول إلى نظام للتجسس السياسي والاقتصادي والتجاري لمراقبة النشاطات التجارية لشركات تنتمي إلى بعض حلفاء الولايات المتحدة وبريطانيا، (راجع نظام المراقبة الشاملة على الاتصالات – د.مازن المغربي). وبعد التطور التكنولوجي الهائل الذي طرأ على الصناعات الإلكترونية والبرمجية، أصبح (إيشيلون) قادراً على أداء مهام جديدة تتمـثل في التقاط أي كلمة تنقل بوساطة الهاتف أو الفاكس أو البريد الإلكتروني في أرجاء العالم المختلفة. وهكذا أصبحت مكالمات كبريات الشركات العالمية ورسائلها وأسرارها في متناول المركز، وبالتالي في متناول القادة الكبار في أمريكا وبريطانيا.

لقد تحول العالم منذ نهاية حقبة الثمانينيات من القرن الماضي إلى مرتع فسيح للرساميل ذات الأرقام المؤلفة من تسعة أصفار أو أكثر، فقد راحت تجوب الأرض من أقصاها إلى أقصاها باحثة عن توظيفٍ في مصرف أو شركة تأمين كبرى.. أو بناءٍ لمصنع حيث المواد الأولية والعمالة الرخيصة، أو سوق ملائم للبضائع أو أوراق المال، وقد وصلت المنافسة بين حكام الاقتصاد العالمي إلى حد (الضرب تحت الحزام) تأميناً لمصالحهم وزيادة عوائدهم. وبما أن كبرى الشركات العالمية قد شكلت حلفاً مع حكوماتها من خلال التبرع للحملات الانتخابية، ومراكز الثقل السياسي وصنع القرار، فقد تشابكت مصالح الساسة في تلك الدول مع مصالح الشركات الكبرى المتعددة الجنسيات، وأصبح الحصول على مكاسب لتلك الشركات على رأس مهام تلك الحكومات، كما أصبح دعم الحكومات المتعاونة بنداً أساسياً في جداول أعمال الشركات العملاقة في العالم، لذلك لجأت الحكومتان الأمريكية والبريطانية إلى الخدمات التي يوفرها (إيشيلون) لتأمين الصفقات لشركاتها بطرق لا تمت إلى الأخلاق بصلة، وذلك عن طريق الحصول على المعلومات والأسرار للشركات المنافسة، ضاربة عرض الحائط بالاتفاقيات الدولية، والأعراف السائدة في عالم التجارة.

لقد نشر البرلمان الأوربي تقريراً يشتمل على معلومات خطيرة تؤكد سرقة الشركات الأمريكية لعقود كانت موجهة لشركات أوربية وآسيوية، بمساعدة مركز (إيشيلون) عن طريق اعتراض أحاديث.. ومعلومات حوّلها إلى الشركات الأمريكية لتستخدمها في سرقة تلك العقود. وهكذا تمّ في عام 1995 تحويل المعلومات إلى الشركات الأمريكية عن مشروع عقد لإنشاء نظام مراقبة عن طريق القمر الصناعي بين الحكومة البرازيلية وشركة (تومسون) الفرنسية بقيمة 5ر1 مليار دولار، وقد تضمنت تلك المعلومات المحادثات الهاتفية ورسائل الفاكس التي تحتوي على المواصفات، وأيضاً وعود الرشوة للمسؤولين البرازيليين. مما أدى في النهاية إلى صرف النظر عن العرض الفرنسي والتعاقد مع الشركة الأمريكية (رايتيون).  (راجع صحيفة ديلي تلغراف – 16/12/1997)

في عام 1993 قامت وكالة الأمن القومي (شريك مركز إيشيلون) باعتراض محادثات ومراسلات جرت بين الحكومة السعودية، واتحاد الشركات الأوربية (إيرباص) لشراء طائرات لصالح الخـطوط الجوية السعودية بقيمة خمسة مليارات دولار، وقد ساعدت تلك المعلومات شركة بوينغ وماكدونالد دوغلاس الأمريكية على الفوز بالصفقة واستبعاد العرض الأوربي. وفي عام 1999 طورت الشركة الألمانية (إينيركون) اختراعاً سرياً لتوليد الطاقة الكهربائية من الرياح بكلفة تقل كثيراً عن السابق، لكنها فوجئت عند تسويقها هذا الاختراع في الولايات المتحدة بأن شركة (كينيتش) الأمريكية قد سجلت براءةً لاختراع مماثل تماماً وذلك عن طريق المعلومات المسربة إليها من وكالة الأمن القومي، وهكذا أصبح (إيشيلون وشركاؤه) بعبعاً للشركات الكبرى في أوربا وآسيا، مما دعا الكثيرين من رجال الصناعة في ألمانيا مثلاً يناقشون قضايا التطوير والتحديث لمنتجاتهم أثناء مسيرهم في الغابات، ليضمنوا السرية لمشاريعهم المستقبلية. وقد قدر خبراء الأمن في ألمانيا أن تجسس الصناعة الأمريكية قد كلفت الصناعة والتجارة الألمانية عند عام 2000 خسائر سنوية لا تقل عن عشرة مليارات دولار عن طريق سرقة الاختراعات ومشروعات التطوير. وقد عبرت (مادلين أولبرايت) وزيرة الخارجية عن تدخل السلطات الأمريكية بشكل سافر وعلني لصالح شركاتها الكبرى، في بيانها أمام الكونغرس في جلسته بتاريخ 8 / 1 / 1998، إذ قالت: إن المنافسة في أسواق العالم حادة، ومسؤوليتنا هنا ضمان الاهتمام بالشركات الأمريكية، وسفاراتنا في العالم مفتوحة لرجال الأعمال الأمريكيين للتشاور معنا، وطلب العون منا.

 (راجع كتاب السيطرة الصامتة – نورينا هيرتس)

 بعد ما تقدم، هل يمكن اعتبار دعوة الولايات المتحدة إلى تحرير التجارة العالمية من كل القـيود دعوة بريئة تهدف إلى تبادل المنافع بين دول العالم؟ وهل يشكل تدخلها المباشر في فرض أنظمة وتوافقات (توافق واشنطن على سبيل المثال) على الدول النامية مساعدةً لتلك الدول لتحرير تجارتها والاندماج في الاقتصاد العالمي؟ أم أنها تنطوي على تهيئة (المسرح) لشركاتها الكبرى لغزو التجارة العالمية مسلحة بالدعم الحكومي المالي.. وبالمعلومات المسروقة بفعل نشاط مراكز التجسس على شاكلة (إيشيلون) والشركاء الآخرين!؟

basharmou@gmail.com

العدد 1104 - 24/4/2024