حول إبداع التراث

يونس صالح:

تعني فكرة تاريخية التراث، أنه لا يتبقى لنا من التراث إلا بعضه، وأما بعضه الآخر فليس علينا إلا أن نعلقه أو أن (نضعه بين قوسين) ناظرين إليه نظرتنا إلى أي عنصر أو حدث تاريخي انقضى، فإلى أين يؤدي بنا هذا القول؟

إن الذي يهمنا هنا الآن هو فقط ذلك الجزء من التراث الذي يقبل أن يكون بقدر ما، جزءاً حياً من الحاضر، وأمام هذا الذي (يتبقى) لن يكون بأي حال من الأحوال إلا واحداً من اثنين: الدمج المادي، أو ما يمكن أن نسمّيه بـ(الاستقلاب المعنوي). وكلّ واحد من هذين الحالين ينصبّ على نمط معين من عناصر التراث، فأما الدمج المادي فيقع على العناصر العيانية من التراث، وأما الاستقلاب المعنوي فيقع على العناصر الأدبية والجمالية منه.

إن جميع المفاهيم الفلسفية التي ما تزال مقبولة الآن تظل جزءاً من منظوراتنا الفلسفية أو الفكرية، وهكذا، ومن وجه آخر نحن لا نستطيع إلا أن نستخلص فوائد أدبية وجمالية من قراءتنا للأعمال الأدبية والفنية القديمة، وهذا يعني عملية (استقلاب) آثار هذه الأعمال وتمثّلها وإدخالها في حالتنا الشعورية ووعينا الجمالي، فقراءة الجاحظ مثلاً أو المتنبي أو المعري وغيرهم، مما يثير الإحساس بالجمال والمتعة، هي أمور لا مجال لاستبعادها أو إهمالها، وهي تدخل بكل تأكيد في المركب الإنساني المعقد لوجودنا الراهن، ويدخل في هذا المركب بالإجمال جميع القيم الأدبية والجمالية التي تثير فينا الرضا والقوة والفائدة، وكلها يكون شأننا معها الاتصال المستمر، إذ بذلك يمكن لعملية الاستقلاب أن تتم، فتتحول هذه العناصر الأدبية والجمالية إلى المركب الثقافي لبنيتنا الشخصية.

ووراء هذه الوجوه من التراث لا يبقى في الحقيقة إلا ما يسقط في طريق التاريخ ويتحول إلى متحفه.

وهذا الذي يسقط ينتمي إلى واحد من القطاعات الثلاثة التالية: قطاع المفاهيم والعقائد والأفكار، وقطاع المصنوعات أو المبدعات التقنية، وقطاع القيم، إذ ثمة عدد كبير من المفاهيم والعناصر التي تشتمل عليها العلوم النظرية القديمة قد فقد قيمته إطلاقاً، إلا من جانب تاريخيته، وما على إنسان يحيط بالعلوم الحديثة إلا أن يفتح كتاباً في العقائد مثلاً، أو في الفلسفة الطبيعية، ليقرر بعد التدقيق، أن معظم المفاهيم أو العناصر الكلامية أو العلمية أو الفلسفية فيه لم يعد مقبولاً الآن، أو أنه منازع فيه كثيراً، أما قطاع المصنوعات التقنية فلا ينكر أحد أنه تضاءل إلى درجة لم يعد يساوي معها شيئاً، وأما القيم والعادات فمن الواضح أن التطورات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية قد ألقت بكثير منها في غياهب اليم.

وعلى هذا الأساس، ننتهي واقعياً إلى حالة من النظر والفعل، لحمتها الواقع المباشر وما تبقى من التراث، ويكون المطلوب عملياً مباشرة أفعال مشخصة بهذه الأطراف التي تم ذكرها، ليصبح النظر والعمل الراهن على النحو التالي: المعطيات المباشرة للواقع والتراث الحي.

أما المعطيات المباشرة للواقع فهي الأرض التي نتحرك عليها، وضرورة التصدي للواقع، لأنه هو الحياة، وفهم حركته وبنيته كشرط لكل فعل، ومن ثم توجيه الواقع وتغييره من خلال هذا الفهم، وهو أمر لا مفر منه، وهذا يعني أن الفكر يمكن أن يلجأ إلى تغيير أحكامه وأساليبه في النظر والعمل في ضوء الواقع، إن كان هذا الواقع يجري مجرى لا يتناسب مع متطلبات الفكر.

وأما التراث عند حده الماضي فقد أصبح شأنه جلياً، إذ تم التطرق إلى أن ما يتبقى منه من عناصر مادية يدمج في نظمنا المادية والحياتية الراهنة، وما يتبقى منه من عناصر أدبية وجمالية يستقلب بعملية التمثل الأدبي والجمالي، ويصبح جزءاً من حساسيتنا الأدبية أو الجمالية الحالية، وبعمليتي الدمج والاستقلاب هاتين يتم إحياء التراث من جديد أي يتم جعله حياً في الحاضر، وهو أيضاً إبداع له وخلق جديد. بيد أنه لابد من القول هنا إن التراث الماضي يفقد بنيته النوعية من حيث هو جزء من الماضي التاريخي، أو من حيث هو كل تاريخي سالف، ويصبح عنصراً مركباً عن عناصر التراث الذي يتكون أو يتشكل. وبهذا الاعتبار يمكننا القول إن التراث دائم التشكل، وإن جوهره في حراك مستمر أي إنه خاضع لعملية إبداع دائمة.

ويبقى سؤال ملح هو التالي: إذا كانت وظيفتنا إبداع التراث، فما هو التراث الذي ينبغي أن نبدعه؟ أو بتعبير آخر: هل ثمة تراث محدد من واجبنا نحن أن نبدعه ونورثه، أم أن ما نبدعه مرهون بظروف الواقع والتاريخ؟

الحقيقة أن عملية توجيه التراث المبدع ليست أمراً يسيراً في ظروف العالم الراهنة، لأننا لسنا سادة أفعالنا جميعها رغم أننا بكل تأكيد نود أن نكون كذلك، كما أننا لسنا بمنأى عن عوامل الفعل والانفعال الذاتية والخارجية، ولسنا نجانب الصواب إن قلنا إننا محاصرون تاريخياً، محاصرون بأنماط الفهم التقليدية العقيمة، ومحاصرون بأوهامنا ورغباتنا وأهوائنا الأنانية والطائفية والعشائرية والأسرية والشوفينية.

وإذا كانت مهمتنا النهائية هي إنجاز تراث وطني إنساني يليق بنا ويحقق وجودنا على نحو سامٍ، في هذا العصر وفي الأعصر القادمة، فإن مهمتنا الأولية السابقة على أية مهمة أخرى هي الفعل المباشر من أجل ما تمت تسميته بـ(فك الحصار) المضروب على فعالياتنا الطبيعية والصنعية.

إن ما يناضل من أجله مفكرو التيار الذين يدعون إلى (عقلانية نقدية واقعية) هو أمر لا مفر منه، وهو ضروري لأن المعطيات المباشرة لوجودنا الراهن تلزم به إلزاماً لا محيد عنه، بيد أنه ينبغي أن يظل منا على بالٍ أن (تفرّد) العقلانية وريادتها لخطو إنساننا الصانع للتراث الممتد الجديد لا يجوز أن يعني الافتئات على المركبات الأساسية الأخرى للطبيعة الإنسانية، أو التقليل من أهمية هذه المركبات وخطورتها. إن من واجب العقلاني أن يعرف قبل غيره أن المركبات البيولوجية والنفسية وغيرها.. لها أيضاً حقوقها في عملية بناء الإنسان، وبهذا الاعتبار عليه أن يجابه المشكلة القديمة نفسها التي جابهها أفلاطون وأرسطو وابن سينا وابن رشد، وهي كيف يتسنى لنا أن نجعل من هذا الحوذي، الذي هو العقل، قائداً لهذه العربة التي تحمل كل هذه القوى المتنازعة، أو المتباينة، أو المتفردة أو المتكاملة!؟

العدد 1104 - 24/4/2024