عائلة!

د. أحمد ديركي:

عند ذكر كلمة (عائلة) تتوارد إلى الذهن الكثير من العلاقات الاجتماعية المعقدة، ومنها علاقات القربى، وكل ما يتعلق بالعلاقة ما بين الجنسين وما تتضمنه هذه العلاقة من عادات وتقاليد ومعتقدات ومحللات ومحرمات ومسؤوليات وواجبات وغير ذلك.

إلا أن هذا المصطلح (عائلة)، وإن كان قديماً، لا يعني أنه من طبيعة الجنس البشري، وطالته عبر تاريخ البشرية العديد من التغيرات الجذرية التي أدت إلى تبدل في هذا المفهوم. فالمجتمعات البشرية لا تعرف السكون، وإن كانت ديناميكيتها غير ملحوظة من قبل الإنسان لقصر عمره. ديناميكية تجعل من كل المفاهيم والمصطلحات (متغيرة) مع الوقت بما يتوافق مع طبيعة ديناميكية المجتمع، ومستويات تطوره على كل الأصعدة.

في العائلة يتمظهر أحد أوجه النزاعات ما بين (الستاتيك) و(الديناميك) (الثابت والمتحرك) في المجتمع. فيحاول البعض رفض ديناميكية المجتمع، محاولين إظهاره على أنه ثابت لا حراك فيه. مستخدمين في معركتهم هذه كل أسلحتهم (المصطلحية) محاولين إسقاط الأمس على اليوم، مصورين حياة (الأمس) بأنها (ذاك الزمن الجميل)، وكل ما هو (طارئ) هدام لا حياة فيه. معاكسين بهذا حتمية منطق الحياة.

لم يهبط تشكل العائلة في المجتمعات التاريخية من الغيوم السابحة في الهواء، أو ما فوقها، بل تشكلت العائلة نتيجة لظروف موضعية، أرضية، تتعلق بسبل إنتاج وسائل العيش. فالهدف الأول منها: غرائزي للحفاظ على الجنس البشري، وكان هذا ما قبل تشكل مفهوم العائلة، وما زال قائماً وإن تغير الشكل مع تطور الوعي البشري.

وعندما عرفت المجتمعات البشرية الزراعة، أي الانتقال من مرحلة القطاف إلى مرحلة الاستقرار مع الزراعة، ظهرت الحاجة إلى تنظيم العلاقات المجتمعية للتوافق مع نمط الإنتاج الحديث، أي الزراعة. فكانت العائلة أحد هذه التنظيمات، وبدأت العائلة تتشكل في بنية مفهومها المعقد المترابط مع بقية المفاهيم والعلاقات المتشكلة مع نمط الإنتاج هذا. فكانت الحاجة إلى يد عاملة في الزراعة، وانتقال الملكية (الإرث)، وظهرت مسألة (السلطة) في التشكلات العائلية و…إلخ.

وصولاً إلى زمننا الحاضر، ما زالت العائلة قائمة ولكنها تختلف بشكل جذري عن مفهومها السابق. وقد يكون أحد أبرز الأدلة في التغيرات التي تصيب بنى العائلة مع تطور المجتمع، وهذا أكثر ما يمكن لحظه في مجتمعاتنا، الانتقال من العائلة الممتدة (extended family) إلى العائلة النواتية (nuclear family). والانتقال هنا لم يكن طوعياً بل ناجم عن تغيرات، وإن كانت مشوهة، في نمط إنتاج مجتمعاتنا. أي انتقال مجتمعاتنا من مجتمعات زراعية، إلى مجتمعات نمط إنتاج كولونيالي.

تغير فرض تغيرات في بنية العائلة. وما زلنا نشهد يومياً النتائج السلبية التي تعاني منها العائلة في بلادنا لرفض عملية التغيرات التي حدثت!

ففي مجتمعاتنا ما زالت العائلة مرتبطة بشكل أساسي بالفكر الديني، ما بين المحلل والمحرم، في طبيعة العلاقة الجسدية ما بين الجنسين وهيمنة المذكر، ومفهوم العذرية عند الأنثى و… إضافة إلى هذا، تمثل العائلة أحد سبل فصل فكرة الموت عن الحياة، وإضفاء طابع الخلود على الجنس البشري من خلال تسمية الأبناء بأسماء الأجداد و… ومن جهة أخرى ما زالت العائلة تمثل، طبعاً في مجتمعاتنا، أحد أبرز الضمانات المادية عند عجز الأبوين عن تأمين مستلزمات الحياة. وما زالت تمثل مفهوم (السلطة) الأبوية في بقية العلاقات. فتصبح العائلة في مجتمعاتنا ذاك التركيب المجتمعي القائم على أسس هشة قابلة للتفكك عند أي منعطف لعدم تكيفها مع التغيرات التي تحدث. وما أكثر الأدلة على مدى هشاشة التركيب العائلي في بلادنا عند مواجهة العائلة لأي أزمة! وقد تكون نسب الطلاق المرتفعة، وإن غابت الإحصائيات الدقيقة لها، أبرز دليل على هذا، ولكن الطلاق الخفي ما بين الزوجين هو الأخطر. وبالقتال للحفاظ على المفهوم التقليدي للعائلة تبقى الأنثى فيه تمثل رمز الإغراء عند داروين وفرويد لا رمز الإغراء عند غلغامش.

ولفهم أوضح لهذه المسألة بمناسبة تاريخ ميلاد المفكر الذي غيّر وجه التاريخ: كارل ماركس، يمكن قراءة مؤلفاته ومؤلفات صديقه فردريك إنجلس حول هذا الموضوع لتكون مدخلاً لفهم ما يحدث. 

العدد 1104 - 24/4/2024