تكليف أم تشريف؟

عيسى وليم وطفة :

باحثٌ أمريكيٌ يقول ويردّد وراءه مُفكّرون ومُنظّرون حول العالم (لا أريد ذكر أسمائهم حتى لا أقدّم لهم دعايةً مجانيةً) يقولون: (الديمقراطية في خطر، والديمقراطية اليوم تلتهم نفسها. وإذا لم تطوّر نفسها فإن الشعبوية ستحلّ محلها)! 

غريبٌ هذا المنطق.

لم أجد في هذا الكلام مزحةً تبعث على الضحك، بل وجدت أن وراءه أهدافاً خبيثة. ومن يقف خلف هذا الطرح العجيب واحدٌ من اثنين:

الأول هو أن من يردّد هذا الكلام وينشره لا يفهم كيف تنشأ وتتطور الأدوات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية في إدارة شؤون الأفراد والمجتمعات ولا يعلم بحركة التاريخ، فهو لا يحق له أن يذيع ما لا يفهم فيه.

والثاني: أن من يروّج لهذا المنطق هو جهةٌ ما، صاحب مصلحةٍ ما، (منظّر) أو (مفكّر) دارسٌ، ويعرف حركة التاريخ، لكنه يتعمّد التضليل والكذب من أجل خداع الناس، لأسباب تخدم مصالح الطبقة المتحكّمة في مفاصل حياة الناس والدول.

في كلتا الحالتين، وبما أنه يحقّ لأيٍّ كان أن يقول بما يراه هو الحقيقة، والحقيقة ليست مطلقةً بالتأكيد وليست حكراً لأحد، فإنه لا بدّ من التأكيد على ثوابت علمية وفلسفية حقيقية مُتّفقٌ عليها لا يستطيع أحدٌ إنكارها، من أجل إيضاح بعض التفاصيل الضروريةِ والهامّةِ للوصول إلى فهم الحقيقة بشكل حقيقي.

– الديمقراطية هي (نظام) ليس سياسياً فقط كما يحلو للآخرين تعريفه، بل هي آلية ونظام لممارسة الإدارة  أو السياسة أو حتى شؤون الأسرة، ويهدف إلى إيجاد صيغة تشاركية يقبل بها جميع المعنيين بشأنٍ خلافيٍ  ما، وتُتّخذ القرارات التي تحصل على الأغلبية في عدد الأصوات، وبالتالي ستلتزم الأقلية بتلك القرارات مع أنها لم توافق عليها، لكنها قبلت مبدأ الديمقراطية للفصل في أي خلافات وخاضت تجربتها الديمقراطية (ولا أريد أن أقول لعبة الديمقراطية)، لكنها فشلت في إقناع الآخرين بوجهة نظرها، ومن ثمّ فشلت في جمع أكبر عدد من الأصوات، وعلى ذلك تكون القرارات ملزمة للطرفين.

– أيضاً، الديمقراطية مفهوم فلسفي قديم وليست بالجديدة وقد عرفها الإغريق والرومان والهنود. أما العرب فلم يتكبدوا عناء الغوص بهذا المبدأ، اعتماداً على مبدأ (وأمرهم شورى بينهم).

– مما لا شك فيه أن الديمقراطية كمفهوم تعرّضت للتشويه عبر التاريخ، كالتلاعب باحتساب الأصوات، أو التزوير بنتائج عدد الأصوات، أو بشراء الذمم والولاءات كما يسمى اليوم بالمال السياسي. وفي القرن الماضي كان أكبر تشويه تعرضت له الديمقراطية كنظام لحكم الأغلبية هو إطلاق ما يسمى (ديكتاتورية البروليتاريا) على نظام الحكم الشيوعي الذي تشكّل البروليتاريا أغلبية اجتماعية وأغلبية في عدد الأصوات مقابل أصوات الطبقة البرجوازية ذات العدد القليل. وأنا لا أعرف كيف وافق الزعماء والمفكرون الشيوعيون آنذاك على إطلاق هذه التسمية، فمن اسمها (ديكتاتورية) تدعو إلى النفور وعدم تقبّلها!؟ (وهذا موضوع آخر).

– من الطبيعي أن تكون الديمقراطية قابلة للتطوير كمفهوم وآلية عمل، لكنها يجب ألا تكون ضحيّةً للتزوير، فهي شكلٌ واحدٌ واضحٌ لا لبسَ فيه، وليس هناك ضبابيةٌ في فهمهِ لفرض حكم الأغلبية، ولا يجوز التبسيط وتمرير مقولة أن للديمقراطية أشكالاً مختلفة كالديمقراطية الأمريكية التي تختلف عن الألمانية أو الفرنسية أو غيرها. فصارت كل طغمة حاكمة باسم القومية أو باسم الدين أو باسم الوطنية تفصّل ديمقراطيتها على طريقتها وبما يتوافق مع استمرار تسيّدها واستبدادها، والخاسر الأكبر هم أكثرية الشعب. هذا التفريق ووضع أشكال للديمقراطية هو التضليل بعينه الذي تعرضت له الديمقراطية.

– النظام الرأسمالي استثمر الديمقراطية في ممارسة الحكم، وقد حقق نمواً اجتماعياً واقتصادياً في البلدان الرأسمالية من خلال التنافس على خدمة المجتمع، ولكن ذلك النمو لم يكن ليحصل بسبب تداول السلطة أو التسابق بين المترشحين بطريقةٍ ديمقراطية للوصول إلى حكم الدولة فقط، بل كان أيضاً على حساب استغلال موارد مستعمرات خلف البحار ومجتمعات أخرى فقيرة.

– ولأن مبدأ الديمقراطية مرتبط جدلياً بمفهوم الحرية، كحرية الفرد وحرية المجتمع وحرية التعبير، علينا أن نتساءل: كيف لشعبٍ حرّ ينمو ويترعرع بأجواءٍ من الديمقراطية أن يقبل باستعباد شعوبٍ وأمم أخرى؟ أليس هذا خداع للناس بأن تطبيق الديمقراطية هو من أوصل مجتمعات تلك الدول إلى هذا المستوى من الرفاهية الخدّاعة؟ إن من يخدع الناس ويضللهم لا يتوانى أبداً عن ارتكاب الفظائع بحق هذه الناس عندما تتهدد مصالحه.

– الشعبوية لا تعني حكم الشعب كما يُروّج لها، لأن حكم الشعب للشعب مفهوم آخر مختلف، وهو أقرب إلى مفهوم الحكم الشيوعي، ولا أظن أن من مصلحة الطغمة الإمبريالية الحاكمة أن تخدم خصومها بتنوير كهذا.

– الشعبوية المطروحة اليوم بديلاً عن الديمقراطية تعني الفوضوية والتشرذم والتفتت الاجتماعي. الفرد (المواطن) هو مصدر السلطات ومن ثم فإن كل مواطن هو الحاكم وهو المحكوم، هو المواطن وهو الرئيس. فالشعبوية لا تقيم وزناً لا لكبير ولا لصغير، لا تقيم وزناً لا لمتعلم ولا لجاهل، واليوم تحقق هذا في ظل انتشار (السوشيال ميديا) كوسيلة تواصل شبه مجانية واسعة الانتشار بين الناس، فقد أصبحت (السوشيال ميديا) منبراً يساوي بين الجاهل والمثقف، منبراً متاحاً لمناضل شريف ولخائن منافق دجّال، من الصعب التفريق بينهما.  وللأسف يظن الناس البسطاء أن هذه الخدمات المجانية بريئة من ممارسة التضليل الاجتماعي وغسل الأدمغة ومسح الذاكرة الاجتماعية، بينما تعمل هذه (السوشيال ميديا) على نشر الفردانية بدل العمل الجماعي، والأنانية بدل المحبة والتفاني في خدمة المجتمع.

– الشعبوية بهذا المعنى جرى تداوله واستخدامه بعد انهيار المنظومة الشيوعية تحت مسميات عدة. وترافق هذا في وقتٍ يتعرّض فيه مبدأ الديمقراطية لهجوم شرس ولئيم من الطغم الحاكمة. وذات يوم قال ديكارت: (أسوأ ما في الديمقراطية أنك مضطر لسماع رأي الجاهل). فماذا كان سيقول ديكارت هذا في زمنٍ اختلط فيه مفهوم الديمقراطية بمفهوم الشعبوية وأصبح الفصل بينهما يحتاج إلى معجزات!؟

– بعد الحرب العالمية الثانية تشظّت الديمقراطية إلى ديمقراطيات مختلفة مفصّلة على مقاسات الطغم الحاكمة.

– بعد الحرب العالمية الثالثة التي انهارت فيها المنظومة الشيوعية كنظام بديل لإدارة الناس وحكمهم، فقدت الديمقراطية ضرورتها وضرورة مجتمعية لاستخدامها لتحقيق النصر على خصمٍ هو بالأساس لا يعرفها ولم يجرّبها، ولاحقاً أصبحت الطغم الحاكمة غير مضطرة لتبييض صورتها أمام الناس في مجتمعاتها، وصار المال السياسي هو مصنع إنتاج القرارات بدلاً من الديمقراطية، أصبحت نتائج الانتخابات غالباً ما تُحسم بطريقة المبايعة. طرف يبايع آخر للجلوس على كرسي الحكم، وتقاسم الثروة والنفوذ بالتفاهم، وصار تداول المصالح الاقتصادية وتداول الحكم بالتناوب والناس نيامٌ في غيبوبة ما بعد الصدمة.

– في تسعينيات القرن الماضي وبعد تحلل النظام الشيوعي حصل شلل كبير في عمل النقابات التي كانت قبل ذلك منظمات عمل جماعي منظّم إلى حدٍّ ما، وشيئاً فشيئاً أصبحت تلك النقابات غير قادرة على تقديم رؤى موحّدة، وصارت عاجزة عن المشاركة في السلطة، وتحولت لتعمل منفردة في خدمة قادتها فقط بدلاً من خدمة الطبقة العاملة ذات الأغلبية الصامتة!

– بعد ذلك اندلع ما سُمّي بـ (الثورات الملوّنة) في دول أوربا الشرقية للإطاحة بما بقي من فلول الأنظمة الشيوعية والاشتراكية المهزومة. كانت الحركات (الثورات) شعبوية على الأرض، لكنها مدعومة ومنظّمة ومحكومة من أرباب الرأسمالية خارج الحدود وعرّابيهم في الداخل.

– بعد أن أصبحت الرأسمالية هي النظام الوحيد في العالم بلا منازع، دخلت أطراف الطغم الرأسمالية العالمية في صراع شرس فيما بينها، فانقسمت إلى رأسمالية أوربية من جهة ممثلة بالاتحاد الأوربي بكل ما يحمل من تناقضات بين دوله العريقة بالخداع الديمقراطي ودوله الفقيرة (الشيوعية سابقاً) الحديثة العهد بالعمل الديمقراطي من جهة، ورأسمالية  الولايات المتحدة وحليفتها حتى النخاع بريطانيا من جهة أخرى، وقد جاءت أحداث ١١ أيلول ٢٠٠١ المفبركة في مختبرات المخابرات الأمريكية لتكون سبباً مشروعاً لإظهار العين الحمراء والجانب الوحشي للنظام الرأسمالي الأمريكي تحديداً لإدخال الرعب في قلوب الناس، مجتمعات وحكومات. وكانت رسالة دموية بأن الرأسمالية الأمريكية العابرة للحدود ستضرب وتُبيد كل من يقف في طريقها حتى لو كان ذلك على حساب أنظمةٍ ودولٍ كانت محسوبة إلى جانب الأمريكي (مثال ذلك نظام صدام حسين في العراق ونظام طالبان في أفغانستان والأمثلة كثيرة)، وللأسف بالذريعة نفسها ألا وهي (نشر الديمقراطية) وهي في الحقيقة صراعٌ يهدف لانتزاع الدول والحكومات التي كانت تدور في فلك الدول الأوربية الرأسمالية العجوز وجعلها تدور في فلك النفوذ الرأسمالي الأمريكي المتغوّل بطريقة الاحتلال المباشر وتدمير مؤسسات الدولة وتأجيج الشعبوية الطائفية والعرقية والإثنية  من أجل إعادة تنظيم مؤسسات (وطنية) جديدة تحكم بالطريقة التي تخدم وترعى مصالح الأمريكي. ولم يكن من خيار أمام الرأسمالية الأوربية العجوز إلا أن تذعن للأمريكي أملاً بالحصول على حصّةٍ ما يقدّمها الامريكي لهم (كما حصل عندما قرر الرئيس الأمريكي جورج بوش الابن حين قال: نحن ذاهبون لاحتلال العراق ومن ليس معنا فهو ضدّنا).

– بعد ذلك أيضاً ظهرت الشعبوية كوسيلة لتدمير الدول والمجتمعات في ما يُسمّى مصطلح (الفوضى الخلّاقة) الذي بشّرت به وقدمته إعلامياً وسياسياً غراب البين كونداليزا رايس (مستشارة الرئيس الأمريكي) عام ٢٠١٠، فكان ماسُمّي بـ (الربيع العربي)، فقد نزل الناس إلى الشارع بلا برامج سياسية واجتماعية واقتصادية، وبلا قيادات تخطط وتضبط حركة الاحتجاجات، فماذا كانت النتيجة؟ حروب أهلية، صراعات، انقسامات اجتماعية عمودية وأفقية، وتدمير في البنى التحتية، وتدمير لمفهوم الدولة ومؤسسات الدولة، وتشويه مفهوم الهوية الوطنية والمواطنة والانتماء الوطني وستحتاج شعوبنا إلى أجيال وأجيال وإلى عشرات السنين لإعادة بناء البشر والحجر.

– فكما استثمر طغاة الرأسمالية الأمريكية مبدأ الديمقراطية لإزاحة خصومهم الشيوعيين والإيديولوجيا الشيوعية قبل نصف قرن، كذلك اليوم يستثمرون مفهوم الشعبوية لإضعاف خصومهم الرأسماليين الأوربيين والإيديولوجيا الديمقراطية الزائفة من أجل إزاحتهم من مناطق نفوذهم حول العالم ليحلّ محّلهم النفوذ الأمريكي المتغوّل.

الخلاصة: لا أحد يستطيع أن ينكر بأن النظام الرأسمالي قدّم الكثير من التطور التقني والعلمي للبشرية، لكن مأساة النظام الرأسمالي تكمن في التغوّل، فأصبح حجر عثرةٍ بعد أن كان محركاً ورافعةً للتقدم.

إن تطبيق الديمقراطية الحقيقية هو مقتل هذا النظام الرأسمالي المتوحش في الصميم، والديمقراطية هي الضامن الحقيقي لحياة كريمة للبشر وتداول السلطات. فالديمقراطية هي الطريقة المُثلى لتشكيل حكومات محلية وعالمية تتسابق لخدمة المجتمعات البشرية. عندئذٍ فقط يكون الوصول إلى السلطة وممارسة السلطة تكليفاً وليست تشريفاً.

وعند ذلك سأكون آخر من يسعى للوصول إلى السلطة.

٦ أيار ٢٠٢٠

العدد 1104 - 24/4/2024