إشراقيةٌ
ومضةٌ
عباس حيروقة:
إن الحديث عن التصوّف ماتع جداً من حيث هو حالة إبداعية نصيّة تمتلك ما تمتلكه من الأمداء والأنداء التي تحار النفس في أيّ وافرات الظلال تحطّ لتنهل من عمق المعاني والدلالات، ومن وحي العبارة والإشارة.. الرمز والمرموز، الصورة والجوهر، الاسم والمعنى، النفس والروح، المحدود واللامحدود، الحقيقة والشريعة …الخ.
التصوف وأساطينه بتجاربهم الذاتية الأشبه والأقرب إلى الماورائيات أو الفنتازيا، التجارب التي تعتبر أساس المعرفة ووقودها، والتي تقودهم إلى الانعتاق من مفردات الزمان والمكان، إلى الكشف والمكاشفة، حقيقة الشاهد والمشهود، إلى الغياب، إلى الحضور.. إلى السقوط إلى الصعود … إلى التماهي أو الاندغام مع أو في الملأ الأعلى.
عجبتُ منك ومنــــي يا منيةَ المتمنّـــي
أدنيتني منك حتــّـى ظننت أنك أنّــي
وغبتُ في الوجد حتّــى أفنيتني بكَ عنّي
وإن تمنيت شيئـــــــاً فأنت كلّ التمنّي ((الحلاج ))
التصوف وأساطينه من حيث أفكارهم ورؤاهم الواسمة لروحانيات ممعنة في الغيابات والفناءات بعوالم نورانية، بروح الله، بأفكارهم القائمة في بعضها على نظريات مغرقة ومتناهية في الدهشة والتأمل، كالاتحاد، والحلول، ووحدة الوجود، ووحدة الشهود، ونظرية الفيض، والعلم اللدني من لدن الله، العلم المبثوث من الذات الإلهية مباشرة تجاه قلب المصطفى من عباده (فوجدا عبدا من عبادنا آتيناه رحمة من عندنا وعلّمناه من لدنا علما) سورة الكهف، 65.
فمثلاً نجد أنهم يعتبرون أن المرتبة التي وصلوا إليها من الوعي العرفاني لم يصلوها أو ينالوها من خلال قراءة الكتب والمجلدات أو من مجالس وخطب علماء وفقهاء ذاك الزمان، بل جاءت من فيوضات المولى جلّ وعظم شأنه. وما كانت لهذه الفيوضات أن تتأتّى لو لم تكن تلك القلوبْ مأخوذة بعلاّم الغيوبْ، لو لم يكونوا على درجة من النقاء والصفاء والحب الإلهي.
صافاهُمُ فصَفوا له فقلوبُهُـــــمْ في نورِها المِشكاةُ والمِصباحُ
سَمَحُوا بأنفُسِهم وما بَخِلوا بها لمّا دَرَوا أنَّ السماحَ ربــــــــاحُ
ودَعاهمُ داعي الحقائقِ دعوةً فغَدوا بها مُستأنسينَ وراحـــوا
واللهِ ما طلبوا الوقوفَ ببابه حَتّى دُعُوا، وأتاهُمُ المفتــاحُ ((السُّهْرَوَرْديَّ ))
نعم، هم هكذا وأكثر، هم أصحاب الانقلاب الحقيقي في مفاهيم عديدة تخص الدين ومؤسساته، الله وتجلّياته للخلق، المشيئة، الإرادة، العبادات، الوجود، ممكنات الوجود، الظاهر والباطن، الاسم والمعنى، العقل والنقل …الخ وهم الذين اجتهدوا وقالوا بإمكانية إقامة علاقات مغايرة للسائد أو المتوارث مع الذات، مع الغيب، مع اللامحدود واللامتناهي ، مع المطلق.
نعم، هم المشتغلون بحسهم العرفاني الدّفاق ـ بدءاً من التوبة وصولاً إلى معرفة الله وتوحيده والفناء به، مروراً بالورع والزهد والحب، فمنهم من اشترط وجوب حصول المعرفة أولاً حتى يتأتّى الحب، ومنهم من قال بوجوب المحبة ووجودها نرتقي إلى المعرفة.
فهل عرفوه بكمال معرفته؟ أم بقيت معرفٌته بذاته ولذاته وحسب؟ وهل شاهدوه بصورته الكلية ..أم شاهدوا ذواتهم في مرآته المصقولة؟؟!! أم بعض صفاته .. أم تجلّى لهم وخاطبوه؟؟