التصوير في الخصر والمزمار

علا عبد الله:

يتّفق النقّاد ولا يختلف اثنان في أنّ الصورة الفنية أحد أجنحة الشعر التي لا يحلّق دونها، وأستطيع أن أجزم أنه ما من قارئٍ متذوّق للأدب مرّ على ديوان (الخصر والمزمار) للشاعر الراحل جوزيف حرب، إلا أعاد قراءته أكثر من مرّة ليُشبع نفسه وروحه من الجمال والإبداع.

فإنّ شاعراً يقول:

(الريح

رجلٌ

والشجرة

امرأةٌ

فتحت قامتها

ظلت ترقص حتّى

بلغت نشوتها)

إنّ شاعراً يستطيع خطف الصّورة بهذه البراعة، لا يُقْرا ديوانه على عجل، وإنّ إعجابيَ الشديد بقدرته على التصوير الفنّي هو ما جعلني أكتبُ ما أكتبُ.

فالصورة عند جوزيف حرب تلتقط مفرداتها من الطبيعة؛ لتبدأ رحلتها من أزاهير الحقل إلى كواكب السماء، فتجول الفضاء بكلّ حريّة، وهو القائل في نص (رسالة):

هذا

الفضاء

رسالةٌ في طيّها

كلّ البعيد

غلافها المختوم

زرقة السماء

والشمس فيها

طابع البريد

وكأيّة قصيدة تتسم قصائد الديوان بالتكثيف والإغراب، وهذا أمرٌ طبيعي، فلغة الشعر لغةٌ تنتهك سنن اللغة العادية، وتختار البنى على أسس من التوازن والتماثل أو الاختلاف، معتمدة على مبدأ الإغراب والدهشة والانحراف، إلاّ أن معيار التفاضل هو في تلك الشحنات العاطفية والتوترات التي تنقلها اللغة إلى القارئ لتجعله يتفاعل معها. وصور جوزيف حرب تحمل من حرارة العاطفة ما يجعلها متوقدة دائماً، وتتجاوب أصداؤها على طول النص الشعري، إذ يقول:

وكم سنةٍ طوتْ سنةً، ولم يرْجع.

ولمّا أُمّهُ دخلتْ سوادَ الموت، قالت وهي تدمعُ بين جاراتٍ وأحباب:

ضعوا في النعش حين أموتُ

صورته بأثوابي،

وخلّوا كلّ بابٍ في بلاد الأرض مفتوحاً لعودته،

سوى بابي.

 تحمل هذه الصورة عبر لغتها المشحونة بالعاطفة إلى القارئ كل ما يوحي به الموت والنعش من الإحساس بفاجعة الفقد، وكلّ ما يوحي به السواد من انعدام الرؤية وانغلاق الأفق، فالعاطفة متزامنة مع التجربة، لا ضعيفة تفقد الصورة حرارتها وتأثيرها، ولا طاغية عليها تفقدها موضوعيتها.

وإذا كانت العاطفة عنصراً أساسياً من عناصر الصورة، فإنّ الخيال جوهرها، فالخيال يعيد تشكيل المدركات في تركيب جديد يخلق بين الأشياء المتنافرة انسجاماً وتناغماً وتوافقاً، ويكشف عمّا بينها من علاقات جديدة، وإن كان ينسج الصور من معطيات الواقع إلاّ أنّه يتجاوز حرفيتها ويعيد تشكيلها سعياً وراء رؤية جديدة متميزة للواقع نفسه.

يقول جوزف حرب:

حبيبي سارقٌ. يأتي إذا

نام الغروب إليّ.

غفوتُ على سريري مثلما تغفو غصون في سرير الميّ.

تسلّلَ عبر سور حديقتي. ومضى بعيداً، سارقاً عينيّ.

وزِرَّ الورد في شَفَتيّ.

وينتقل الشاعر في ديوانه من صورة رؤيوية قائمة على رموز مشحونة تخلق الرؤى وتدرك المفردات إدراكاً تصويرياً، إلى صورة إبهامية تتجاوز الخيال المنطلق من المحسوس لتصل إلى الإبهام، وتنحدر إلى عالم الغرابة والدهشة، وصولاً إلى الصورة الواقعية التي تقوم فيها الظواهر الواقعية المرئية في محيطها النموذجي بتجسيد الأفكار والطموحات والمشاعر، وتصبح المادة الواقعية نقطة للتعميم الفني الواسع.

ومن الصور الرؤيوية نص (شيخوخة):

لِكثرة خوف الشجر،

إذا شاخ أن يتهاوى، وتذهب منه استقامة خيط المطر،

يهيّئ في صيفه للخريف،

وكلّ دروب الخريف حصى،

يهيّئ من كلّ غصن

عصا.

لا أدري لماذا أوحت إليّ عتبة النص (الشيخوخة) بأن عامل الزمن يؤرّق الشاعر.

افتتح الشاعر نصّه بإسقاط شعور الخوف على الشجر.

الشجر يعني الخضرة والخصوبة والجمال والحياة والعطاء.

إنّ وجود كلمتي (صيف) و(خريف) تقسم النصّ إلى معجمين لغويين متقابلين، يشكّل فيهما الصيف والخريف معادلاً للشباب والشيخوخة.

فما يوحي به الشجر يوحي به الشباب: الجمال والعطاء والحياة والنضرة.

 ـ خاف الشجر أن يتهاوى، ولنا أن ننتبه هنا إلى صيغة (يتفاعل) التي تفيد أحرف الزيادة فيه أو تدل على التدرج (حسب السياق)، فهو لم يقل (يقع أو يسقط أو يموت) بل يتهاوى شيئاً فشيئاً (يستغرق زمناً) فضلاً عن أحرف العلّة، في هذا الفعل، التي توحي بالضعف والوهن.

ـ خاف أن تذهب منه (استقامة) خيط المطر، وهذا التركيب الإضافي أيضاً يوحي بدلالات الشجر والشباب، فالمطر: خصب وجمال وعطاء.

ولنا أن نقف أيضاً على كلمة (استقامة).

من الواضح أنّ الشاعر أراد بالاستقامة هنا قوام الخيط أو شكله، أو الشجر المستقيم، إلاّ أننا نستطيع أن نفتح نافذة أخرى للحقل المعجمي الذي جاءت منه هذه المفردة، فهي ترتبط بأذهاننا بالمعجم الديني والأخلاقي، إذ تردُ في نصوص الوعظ والتأديب. فهل تكشف عن شيءٍ ما في النّصّ؟

***  

من المهمّ طرح الأسئلة وليس من الضروري الإجابة عنها، فقد تقودنا إلى شيءٍ وقد لا تقود.

أصبح لدينا الآن المفردات المتقابلة:

(الشجر ـ المطر ـ الصيف ـ غصن) مقابل (شاخ ـ يتهاوى ـ تذهب ـ خريف ـ حصى).

العطاء مقابل الحصى (لا عطاء ولا حياة ولا حركة).

هذا الشجر يهيّئ للخريف عصا من كلّ غصن.

الغصن: السلام والخضرة والهدوء، حامل الثمر إذا ما انتزع من شجرته تصنع منه عصا.

 و(العصا) كلمة لها إرثٌ كبيرٌ في الثقافة العربية، فقد ارتبط العرب تاريخياً وثقافياً بالعصا، من عصا موسى التي تحوّلت إلى معجزة نجّته من ثعابين فرعون، والتي شقّ بها البحر ليهرب وقومه من البطش، فكانت (وسيلة نجاة) إلى منسأة النبِيّ سليمان الذي توكّأ عليها حتّى مات.

وتحوّلت العصا إلى رمز مقدّس لا غنى عنه للسلطة الدّينيّة في الدّيانة المسيحية، وفي الديانة الإسلامية رافقت خطباء الجمعة، وغدت رمزاً لوجاهة الرجل وأناقته، كما استخدمها شيخ الكُتّاب ورافقته في رحلة التعليم وتأديب التلاميذ، ونتذكر هنا ما تحدّثنا عنه حول إيحاءات كلمة استقامة، وورودها في نصوص الوعظ والتأديب.

إذاً، هل العصا التي ستتوكّأ عليها الشجرة والتي هيّأتها من غصنها، أي من نفسها ومن ذاتها لها علاقةٌ بالنجاة أو بالتأديب؟

هل يعني الشاعر أن الشباب يستطيع أن يعدّ من نفسه ما يستند إليه في شيخوخته؟

هل يقصد معانيَ أُخَر؟

وهل تشع هذه الصورة باتّجاه آخر؟

ومن الصور الواقعية اللافتة في الديوان قوله في نص (موت):

في قرانا

إنما نُغْمِضُ عين الميتِ حتّى لا

يرانا.

وقوله في نص (الجلاد):

لا يدرك الجلّاد

وهو يوثق اليدين

أنّ له ظهراً

وركبتين!

فهو في تسليط الضوء على ظلم الجلّاد بهذه الطريقة يوصل رسالته بأن الأيام ستدور وكلٌّ سيلاقي ما يزرع.

ولعل التصوير الواقعي أصعب أنواع التصوير الفنيّ، لأنه يحتاج إلى نفس مستبصرة تستطيع أن تنفذ إلى جوهر الأشياء وإلى روحٍ متوقّدة توّاقة إلى المعرفة تلتقط المشهد من الحياة وتعيد صوغه، بعد أن تلقي عليه نور بصيرتها.

بهذه اللمحة السريعة أستطيع أن أقولَ: إنّ إبداع جوزف حرب على مستوى التصوير في ديوانه (الخصر والمزمار) يُعْجزُ قلم النّقد، إذ يشعر أنّه يخشى أن يقتربَ من الصورة فيجرح شفافيتها؛ لأّنه ينقل لنا ذلك الإحساس واللحظة الشعورية التي يحياها الكاتب قبيل ولادة قصيدته؛ لتحيا راهبة في دير الورق، وخير ختام، قوله:

الشعرُ…

أنّ الكلمهْ،

لمّا تلبس ثوب الحبرِ،

في طقسٍ كطقوس الماءْ،

سرِّيٍّ مُغْمَضْ،

تُصْبحُ راهبةً سوداءْ

تحيا في

ديرٍ أبيضْ.

العدد 1104 - 24/4/2024