نحن والعالم.. ودروس (كوفيد 19)

كتب رئيس التحرير:

صحيح أن فيروس (كوفيد 19) الذي يجتاح العالم اليوم ليس الوباء الوحيد الذي شهدته البشرية عبر تاريخها المغرق في القدم، لكن المفارقات التي شكلها في زمننا الحاضر، الذي ظنّه كثيرون عصيّاً على الاجتياح، تطرح جملة من الدروس والعبر التي ينبغي، حسب اعتقادنا، أن تنال اهتمام الجميع، ومن أهم تلك الدروس والعبر:

أولاً_ أن الإنسان هو الغاية من أيّ تقدم أو تطور في جميع العلوم وتطبيقاتها المختلفة، وكلّ انزياح عن هذه الغاية يلغي المعاني السامية للعلم، والمقاصد النبيلة للتطور، ويوسّع الفجوة التي نراها اليوم، بين ذكاء اصطناعي يمكنه، إذا ما كُرِّس لخير البشر، أن يقود إلى فتوحات في الحصول على موارد أكثر فأكثر، بين هذا الذكاء وملايين الناس الفقراء، الذين يفتقدون الحد الأدنى من القوت اليومي في أرجاء متعددة في العالم.

ثانياً_ أن هيبة أي دولة من دول العالم وقوّتها لا ترتبط بأساطيلها، ولا بصواريخها وقواها النووية، بل بمدى تحقيقها لشروط الحياة الكريمة لمواطنيها، ويأتي في مقدمة هذه الشروط: تأمين الغذاء والخدمات الصحية اللائقة، فالولايات المتحدة الأمريكية تجد نفسها اليوم مضطرّة أن تستورد الكمامات وأجهزة التنفس وتجهيزات التمريض الأخرى من الخارج!!

ثالثاً_ بطلان جميع النظريات والدراسات التي تزاحمت لتثبت بعد انهيار النظام الاشتراكي أن الرأسمالية هي نهاية التاريخ، فالحاضر يثبت أن نظاماً قائماً على منصة مليئة بالمصارف ومصانع السلاح والبرمجيات الذكية لخدمة النخب الثرية المستغلة، ويفتقد العدالة وتأمين شروط الحياة لمواطنيه، لا يمكنه أن يتسيّد التاريخ، بل تقتضي سعادة البشر الاستعاضة عنه بنظام اشتراكي.. إنساني.. عادل، يكرس القيم الإنسانية، ويطلق طاقات الإنسان لخدمة القيم العليا في المجتمعات، وكما قال الأمين العام للحزب الشيوعي الإيطالي ماركو ريزو: (الدرس الذي ينبغي تعلمه هو أن التفوق موجود حيث يقوم الاقتصاد على الجماعية وليس على الربح. الرأسمالية تنتج الإفراط، أما الاشتراكية فتعطينا ما نحن بحاجته فعلاً. في الرأسمالية، يمكنك المشاركة في منحة (إيراسموس)، ولكن ليس لديك دورٌ للحضانة ومستشفيات للولادة. في الرأسمالية، يمكنك السفر إلى لندن عبر شركة (ريان إير) للطيران مقابل 10 يوروات، ولكن عندما تعود إلى إيطاليا ليس لديك منزل ولا عمل. أما الاشتراكية، فتعطيك ما تحتاجه: المنزل والعمل والصحة والتعليم والنقل).

رابعاً_ أن السلاح، الذي أُنفقت على تصنيعه وتكديسه تريليونات الدولارات، ساهم في تكريس النزعات العدوانية وفرض الهيمنة على البشر، ووسّع الهوة بين إرادة الأقلية المستغِلة، ومصالح أكثرية البشر وحقها بحياة حرة.. كريمة، ولم يستطع هذا السلاح أن يمنح الناس المصابين جرعة من الأوكسجين!!  

خامساً_ أن العولمة المطلوبة، اليوم، هي عولمة التطور العلمي والمعرفة والثقافة والقيم الإنسانية، لا عولمة الاستغلال والهيمنة على ثروات الشعوب عبر الشركات المتعددة الجنسية للحصول على القدر الأكبر من الأرباح لخدمة النخب المسيطرة في الدول الامبريالية.

سادساً_ صحيح أن (كوفيد 19) وصل إلى بلادنا في ظروف صعبة، بعد تسع سنوات من الأزمة والغزو الإرهابي والحصار الاقتصادي الظالم، تسببت بالمآسي لشعبنا، وأضرّت بجميع القطاعات المنتجة في بلادنا، وأدت إلى ركود الاقتصاد الوطني، مما أضعف إمكانية التصدي لانتشار هذا الفيروس، لكن تداعيات ما حصل حتى تاريخه، تضع أمام القيادة السياسية حزمة من العبر التي كانت واضحة أمام من يريد رؤيتها منذ عقود!!

  • أن الأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية تشكل كلاً واحداً، يخلق المناخات الملائمة لتطور وتقدم الإنسان السوري، ويمهد له الطريق لرسم مستقبل سورية التي تضمن الأمن والغذاء والدواء والعلم والرفاه لأبنائها.

ب-أن الاستثمار في الإنسان السوري هو الاستثمار الرئيسي، فهو القادر على حماية الوطن وسيادته، والمحور الأساسي لكل تطور وتقدم يؤديان إلى رفعة البلاد وسعادة الشعب.

ج-أن تهميش الطموحات السياسية والاجتماعية للغالبية العظمى من أبناء الشعب السوري، التي تمثلها الفئات الفقيرة والمتوسطة، يوسع هوة التمايز الطبقي في المجتمع، وتتحول فيه شعارات الحرية والعدالة والتقدم إلى عبارات جوفاء أمام تحكّم نخبة من أصحاب القرارات والأثرياء الباحثين عن مصالحهم الضيقة.

د- أن التخلي عن دور الدولة الرعائي، وتحجيم قطاعها العام، ومرافقها الحيوية ومنشآتها الخدمية وبضمنها المشافي والمدارس والجامعات، سيؤدي إلى زيادة أعباء الفئات الفقيرة والضغط عليها رغم أنها الحامل الرئيسي لأي إنجاز سياسي أو اقتصادي أو اجتماعي تحققه بلادنا.

يعتقد كثيرون اليوم أن العالم ما بعد (كورونا) لن يكون كما كان قبله، إذ سيشهد تغييرات بحجم المنعطفات الكبرى.

فهل نشهد في سورية التحول الكبير، بعد زوال الخطر الفيروسي، والقضاء على بقايا الإرهاب، وصدّ العدوان التركي الغاشم والاحتلال الأمريكي؟

هل تتحقق طموحات الشعب السوري بمستقبل ديمقراطي..علماني.. تقدمي، يغلّب مصلحة الإنسان على أي مصلحة أخرى، ويفتح الآفاق أمام سوريتنا لأخذ دورها اللائق في عالم لن يصونه من الكوارث والأوبئة والدمار إلّا الإنسان؟

الجميع مدعوون إلى النضال من أجل تحقيق هذا الهدف.

العدد 1104 - 24/4/2024