رأفةً بفرويد!

  د. أحمد ديركي:

يُعتبر سيغموند فرويد واحداً من أبرز علماء النفس، ومؤسس (المدرسة التحليلية) لا يعني هذا أن مدرسته لا تواجه النقد، بل هناك العديد من الانتقادات العلمية لمدرسته، حتى من قِبل بعض ممن تتلمذ على يديه من أمثال كارل يونغ)

ما من شك أنه مع تأسيس مدرسة فكرية، سواء انتمت هذه المدرسة إلى العلوم الإنسانية أو الطبيعية، فإنها تُحدث نوعاً من تكريس فكرتها في المجتمع، فهي نتاج مجتمع، مضيفةً أو مُلغيةً لبعض الأفكار التي سادت ما قبل ظهورها. ولا يتوقف تأثير المدرسة الفكرية على محيطها (الجغرافي السياسي) فقط، بل يتعداه إلى أبعد من هذا بكثير، ليصل إلى مرتبة (العالمية). فلو اقتصر التأثير على محيطها (الجغرافي السياسي) فقط، لما ارتقت إلى مستوى (العالمية) وانحصرت ضمن (المحلية). ويمكن القول من دون أدنى شك إن مدرسة التحليل النفسي مدرسة عالمية.

انطلاقاً من هذا تصبح صحيحةً مقولةُ (المجتمع ما قبل فرويد ليس كما بعده)، وهي مقولة تنطبق على كل المدارس الفكرية. والمقصود هنا بعبارة (مجتمع) المجتمع البشري، وإن كان هناك بعض الاستثناءات الجزئية التي لم تتأثر بهذه المدرسة الفكرية العلمية أو تلك.

لا بد من إنصاف فرويد فكرياً لا شخصياً، فالمسألة الشخصية قضية أخرى، لأن أفكاره تواجه تشويهاً كبيراً، أو تقديساً، وفي الحالين الأمر سيّان، من قِبل الأكاديميين قَبل العامة. والإنصاف يقتضي وضع الأمور بموضوعية، ولو جزئية، لعدم وجودها كشيء مجرد كما يدّعي البعض، بعيداً عن (التأييد) أو (النقد) لمدرسة فرويد، والمقصود ب(التأييد) الانتماء إلى مدرسة فكرية والعمل على تطويرها لا تقديسها، والمقصود ب(النقد) العمل على الأسس لمدرسة فكرية وانتقاد هذه الأسس فكرياً وإيجاد بديلها الفكري.

أينما ذُكر اسم فرويد، مع بعض التفاوتات في الموقع الجغرافي_ السياسي، ومدى معرفة المحيط الاجتماعي به، يتنطّح كثيرون لمدحه، أو لذمّه، من دون أن يكون أي منهم قد أنجز قراءة ولو جزءاً يسيراً من مؤلفات فرويد. فتصبح الأفكار المنقولة: (قيل عن قال)، وغالباً ما تكون (مشوّهة)، حول أفكار فرويد هي المتسيّدة في النقاش الدائر. وعلى سبيل المثال لا الحصر أول ما يرتبط اسم فرويد بذهن البعض يرتبط ب(العقد الجنسية)، وكأن كل ما قدمه فرويد من أفكار كانت منطلقة من (الغريزة الجنسية) رابطاً إياها بكل سلوكيات الأفراد من لحظة الولادة حتى الممات. وتبدأ تنهال عليه النعوت (الجنسية)، إلى حدّ وصفه ب(المعقّد جنسياً)، لأنه قرأ كل الوجود البشري اعتماداً على (الغريزة الجنسية). وعلى الضفة المقابلة لا تختلف الصورة كثيراً عند مؤيديه، بالمعنى القدسي، عن صورته لدى معارضيه، ما يشير إلى عدم إنجاز قراءة ولو جزءاً يسيراً من أفكاره، حتى عند هذه الفئة من مؤيديه.

من الأمثلة الشائعة في النقاش حول فرويد ومدى عالمية مدرسته، من منا لم يسمع ب(عقدة أُديب) لنلصقها بأيّ عقدة جسدية أو غرائزية نريد ونناقشها ونطبقها على محيط المناقشين من دون أدنى معرفة عنها، ويظهر عند طرح أسئلة مثل في أي مؤلف من مؤلفات فرويد عولجت هذه المسألة؟ في أي سياق عالجها؟ ما الذي تمثله في الفكر الفرويدي؟ هل أدخل عليها تعديلات لاحقة؟ وأسئلة عديدة أخرى حولها. أسئلة لا إجابة عنها عند أكثر من يخوض النقاش حول أفكار فرويد، عند ذكر اسمه. ويعود السبب في هذا إلى الجهل والتجهيل بفكر فرويد. ومثال آخر على هذا الأمر: الويل والويل لمن يقع بزلة لسان في نقاش، وإن كان عامّاً، إذ يقفز المتفذلكون فكرياً لتحليل زلة اللسان على أساس (فرويدي)، وفرويد بريء من معظم الفذلكات الفكرية لهؤلاء المنظّرين.

رأفةً بفرويد، يرجى قراءة ولو جزءاً يسيراً مما كتب وقدّم هذا المفكّر المسكين لعلم النفس، قبل (نتفه) على طاولة النقاش، وعدم التوهم والادعاء بمعرفة بكل ما أتى به فرويد، سواء أتى النقاش من الأكاديميين أو العامة، وقد يكون كتاباه الأخيران، وهما كتابان صغيران، من المفيد قراءتهما قبل الدخول في أي نقاش حول فرويد، وبخاصة أنه كان دائم العمل على مراجعة نظرياته وتطويرها.  

العدد 1104 - 24/4/2024