إما الدولة العلمانية الديمقراطية أو دولة محاصصة وصراعات دائمة

محمد علي شعبان:

 لقد قدمت تجارب الشعوب العديد من العبر والدروس لأبناء المنطقة العربية، لكن الثابت في معظم تلك التجارب أن الأقليات الدينية، والطائفية والقومية هي من يدفع الضريبة الكبرى، سواءً بالاضطهاد، أو بالموت الجماعي على شكل مجازر، أو بالتهجير.

وما زال الشعب العربي عامة والسوري بشكل خاص يتذكر العديد من المجازر التي قامت بها تركيا والكيان الصهيوني بحق شعبنا العربي، أو من الأرمن أو الإيزيدية حديثاً، وبعض الأحداث المتفرقة هنا وهناك.

 بيد أن ثقافة تعايش القوميات فيما بينها لم ترتق للمستوى المطلوب لتتحقق فيها المساواة، والعدالة الاجتماعية ما دامت الأفكار القومية والدينية تحمل في طياتها نزوعاً خاصاً وشوفينية خاصة، بسبب بنيتها المركبة على أنها الصح المطلق وغيرها من الأفكار خطأ مطلق، وما دامت المعايير السائدة تقوم على ذلك الفهم وأن غالبية الأفكار القومية مستوردة ولم تتشكل بوعي الضرورة.

لقد جاءت محملة بتمايز قومي بين أبناء الوطن الواحد لتصنع الحواجز، وتقيم الحدود التي تستدعي النبذ والكره، الذي يتحول إلى خلافات وصراعات، وأن أحد دواعي تصدير الفكرة واستيرادها لم يكن بحسن النية ما دامت هذه الأفكار تدعو للتقسيم والتمييز على أسس قومية أو طائفية، على العكس تماماً من الأفكار الاشتراكية التي كانت تدعو للمساواة والعدالة الاجتماعية وتوزيع الثروة بشكل عادل.

لذلك نستنتج أن الأفكار القومية والدينية كانت تهدف إلى إعاقة تمدد الفكر الاشتراكي الذي كان في حالة مد وانتشار أفقي على مساحة الوطن العربي باستثناء بعض الدول ذات الأنظمة الملكية المغلقة.

 لم يتوقف الأمر عند خطر المشروع القومي وحسب، لقد ولدت مشاريع طائفية ودينية وحركات سلفية خاصة تهدف إلى إجهاض الفكرة القومية تارةً، وعرقلة المد الاشتراكي تارةً أخرى.

وأصبحت المنطقة العربية بقومياتها المتعددة وإثنياتها، وطوائفها ومذاهبها، حقل ألغام، ليس بمواجهة الأخطار الخارجية، لكنه يوظف ويستثمر لمصلحة الخارج متى أرادت قوى العدوان توظيفه واستثماره.

لذلك أقول الحقيقة وأنا خائف وقلق على مستقبل الوطن الذي تنتعش فيه الأفكار القومية والدينية، سواء كان هذا الانتعاش بفعل أو بردة فعل، والتي تحولت إلى تنظيمات سياسية مسلحة، والأكثر خوفاً أن هذه التنظيمات لا يمكن أن تكون قوية بإمكاناتها الذاتية، إذا لم ترتبط بدول خارجية لا تريد الخير لأوطاننا وتعتمد عليها بالتمويل والتسليح بالتالي تعمل لصالحها.

وليس للنوايا الحسنة مكان في صراع الدول، وخاصة الدول الاستعمارية صاحبة المشاريع التوسعية، والتي تقوم على تقسيم الأوطان وتجزئتها، بغية احتلالها والسيطرة على مقدراتها.

إن ما يجري في الجزيرة السورية والدور الذي تلعبه بعض القوى الكردية يحتاج للتوقف والسؤال: من هي الجهة المستفيدة من المحاولات المتعددة من قبل بعض القوى الكردية في طرح أفكار لمشاريع بمسميات مختلفة، مرةً فدرالية ومرة حكم ذاتي وتارة إدارة لامركزية ديمقراطية؟

 هل يمكن تحقيق أحد هذه المشاريع بسلاسة وبسلام في مرحلة خاصة من تاريخ الأزمة السورية، التي كان أحد أسبابها بعض الدول التي تدعم مشاريع التقسيم والانفصال؟!

 وهل تسمح تلك الدول لشعوبها بخلق مشاريع كهذه على أراضيها؟!

 إن الشعب السوري بتنوعه القومي والطائفي والمذهبي عاش ويرغب بالعيش المشترك مع الجميع لولا وجود بعض الطامعين بميزات خاصة وسلطات خاصة، مستغلين بذلك بعض الفئات الفقيرة لتحقيق أطماعهم في الوصول لغاياتهم.

 بيد أن الذاكرة الجمعية التي يتمتع بها الشعب السوري تؤهله لفرض خياراته على الطبقات السياسية التي عملت وتعمل على خلق انزياحات خاصة في بعض المناطق المستفيدة من ضعف سلطة الدولة لخلق ثقافات جديدة قد تشكل لغماً جديداً على فقراء تلك المناطق.

 وليس خافياً على أحد أن هناك جهات محددة تريد جعل المنطقة في حالة توتر وصراع دائم، وأن لهذه الجهات أدوات قوية ومتنوعة تعمل لصالحها.

 لكن المطلوب شيء جديد مختلف، في ظل طبيعة وشكل الصراع الذي يسود بالمنطقة.

إن الصراع القائم في المنطقة العربية بشكل عام كيفما كان شكله وطبيعته

في محصلته النهائية، هو خدمة للدول صاحبة مشاريع التوسع والهيمنة، كيفما تجلى، ما دامت تلك الدول تجيد استثماره لصالحها.

 والمطلوب في هذه الظروف بالذات الانتقال إلى إغلاق العديد من الملفات التي تستخدمها قوى العدوان في الداخل وتحويلها من نقاط ضعف داخل بنية الدولة، إلى نقاط قوة لمواجهة أعداء الدولة.

ولا شك أن تعدد الطوائف والمذاهب والقوميات في أي دولة قد يشكل حالة قوة وغنى لتلك الدولة.

إذا سادت التشاركية والعدالة الاجتماعية، والمساواة، بالحقوق والواجبات، وتوزيع الثروة بشكل عادل، وعدم التمييز بين المواطنين على أساس عرقي أو قومي أو ديني أو أي انتماء آخر، يصبح التنوع غنىً وقوة، والعكس من ذلك يجعل التنوع والتعدد في المجتمع والدولة خطراً حقيقياً كألغامٍ قابلةٍ للتفجير لصالح الطامعين الخارجيين وأدواتهم في الداخل.

ورغم كل ما يقال عن العقد الاجتماعي الجديد، وعن الدولة الحديثة، والاجتهادات المتعددة، فقد أثبتت الوقائع والتجارب التاريخية أن الدول العلمانية الديمقراطية هي التي تتعايش فيها جميع القوميات والأديان والطوائف بأقل صراعات داخلية وأقل استثمار وتوظيف لصالح الدول التدخلية الخارجية، وهي التي تجعل مناخ الاستثمار والتنمية أكثر نشاطاً وحيوية، وتحقق الأمن المجتمعي والغذائي وتجعل المواطنين جميعاً صفاً واحداً مدافعين عن استقرارهم وأمنهم بوجه الطامعين، وليس جسر عبور للمحتلين.

 لذلك يجب على جميع المواطنين السوريين، على اختلاف توجهاتهم السياسية وتموضعهم الفكري، وانتماءاتهم القومية والطائفية، العمل على إقامة الدولة العلمانية الديمقراطية التي تلغى فيها الفوارق والامتيازات وتسود ضمنها المساواة والعدالة الاجتماعية بين جميع أبنائها دون تمييز لنضع أنفسنا على بداية الطريق الصحيح الذي يأخذنا إلى بر الأمان باتجاه مجتمع أكثر إنسانية وأقل تطرفاً.

إن تحقيق ذلك يحتاج إلى عمل جاد، وتشكيل ورش عمل متنوعة وخلق مناخ مناسب لحوارات بناءة بين أطياف المجتمع السوري تفضي إلى عقد اجتماعي جديد، أساسه الاتفاق على العمل لتحقيق الدولة العلمانية الديمقراطية، التي لا بديل عنها بمجتمع متعدد القوميات والطوائف.

العدد 1102 - 03/4/2024