ابن رشد.. رائد الاتجاه العقلي في الفكر العربي

يونس صالح:

بعد ثلاثة أشهر من دفن ابن رشد في مراكش نقلت رفاته إلى مقبرة أجداده في قرطبة وشهد الشيخ الصوفي محيي الدين بن عربي الحدث كما يقال، وكان في العقد الرابع من عمره.

ولكن المشهد كان أكثر مأساوية، لم تكن جنازة منعزلة لفيلسوف كهل وفرد، لقد كان في الحقيقة موكب الفلسفة العقلانية العربية المهزومة في ديارها وعلي يد بعض أهلها، بعدما ظلت تقدم إنجازات فكرية وعلمية جعلت بها الثقافة العربية منارة الثقافة العالمية ومركزها بلا منازع على مدى قرون، فالجثمان المتوجه غرباً إلى البر الأوروبي، العربي آنذاك، حمل معه معادلة الوحيد (الكتاب) الذي يليق به، والذي سيبقى ذكرى صاحبه عصية أبداً على الإمحاء من تاريخ الحضارة، إلا أنه معادل ناقص أقصي عنه ما اختص بالفلسفة العامة، وأبقي على كتب الطب والحساب التي يفيد منها علمياً الجميع على حد سواء

هذا (الموت) الذي أصاب الفلسفة العربية وحرية الفكر والنظر العقلي لقرون انت له إرهاصات يشتد حبلها على الأعناق في فترات الهزائم العسكرية والضعف السياسي، ويرتخي ويغيب في فترات القوة والسيادة والثقة بالذات، قبل وفاته بسنوات ثلاث، اتهم ابن رشد بالفكر والزندقة، فحوكم علناً أمام السلطان الموحد يعقوب المنصور في جامع قرطبة الأعظم الذي شغل فيها منصب قاضي القضاة لسنوات، وهو المنصب الذي شغله جده، وكما كان والده قاضياً أيضاً، فلعنه الحاضرون وأخرج منهاناً، وجمعت كتبه في الفلسفة وأحرقت، وحرم اقتناؤها ومطالعتها هي وأمثالها، تحت طائلة العقاب الصارم، ونفي إلى بلده (أليسانة) في الأندلس لا يسمح له بأن يبرحها، وكانت آهلة بمنفيين آخرين.

إن أسباب محنة ابن رشد لم تكن شخصية فحسب، إذ شملت غيره أيضاً من الذين اشتغلوا بالحكمة وعلوم الأوائل، لقد اقتضاها ابتغاء السلطان تملق الفقهاء المتزمتين والعامة في زمن اشتداد الصراع والحروب مع أمراء إسبانيا.

إن العفو الذي حصل عليه قبل وفاته بفترة وجيزة لم يزل أسباب المحنة، ولا عدّل آثارها السلبية على مجمل الحياة العربية حتى أيامنا، لقد كان ابن رشد آخر أعلام الفلسفة العربية العقلانية النقدية الكبار، وقد نكب بسبب موقعه هذا وإن تزامن هذه المحنة مع بدايات ما اصطلح على تسميته بـ(عصور الانحطاط) التي لم تضع حداً حاسماً لها (النهضات) العربية الحديثة، عزز الاقتناع بالترابط السببي ما بين ضرب التيار العقلاني النقدي، الذي مثله ابن رشد خير تمثيل، والتقهقر الحضاري والسياسي اللاحق له، هذا الترابط فيه أفكار ابن رشد ونظرياته وشروحاته، بعد أن وُضعت تحت الحظر في موطنها الأصلي.

إن (استعادة) ابن رشد بعد غربة قسرية استمرت ثمانية قرون، واستمر بسببها الغياب العربي عن الصفوف الأولى لمسيرة الحضارة الإنسانية، قد أهلتها التطورات الخطيرة التي ظهرت وتمثلت بظهور وتوسع حركات التطرف الديني المنتشرة في البلدان العربية وغيرها، التي تتوصل العنف المسلح كطريق أوحد للعمل السياسي، وللتعبير عن مواقفها، وترفض الحوار العقلاني الحر والاعتراف بالآخر، والحق بالاختلاف، وأن الخوف الواسع من هذه التوجهات وأمثالها ينبع من كون ذاكرة الناس تعج بالعديد من الأمثلة التاريخية الحية المرعبة.

وبالتالي فإن الرهان على عقلانية ابن رشد يفسر عمق القلق الذي يعتور الباحثين، من مغبة التمادي بالانزلاق في مهاوي العنف اللاعقلاني، وإيمانهم بأن للعقلانيين تراثاً عميقاً في الثقافة العربية باعتراف عالمي، ويعتقد العديد من المؤرخين أن منهجيته العقلانية المميزة التي يعرفّها الغرب في القرون الوسطى عبر انتشار ترجمات مؤلفاته وشروحاته الفلسفية والعلمية إلى اللغة اللاتينية، كانت أحد أسس النهضة الأوروبية الكبرى التي أعقبت عصور الظلام ولعل النزعة الأهم عند ابن رشد هي وقوفه إلى جانب نظام الشورى ضد النظم الاستبدادية، إلا أن ذلك لا ينفي وجود عدد من نقاط الضعف لديه، مرتبطة بالمرحلة التاريخية التي عاشها هذا التنويري، وأبرزها وجود ازدواجية عند ابن رشد محتواها محاولة للتوفيق بين الدين والفلسفة، وثمة من وقف من هذه المسألة الموقف التقليدي الذي يقبل تصريحات ابن رشد على أنها مرجعية تأويلية نهائية، والتي تقول بأن الحكمة حق والشرع حق، والحق لا يضاد الحق بل يوافقه ويشهد له، ولكن بالمقابل ثمة أيضاً مقاربات جديدة لهذه المسألة جديرة بالمناقشة، تعتبر أن براهين أرسطو التي استخدمها ابن رشد غير قاطعة، لأنها قائمة على النموذج الرياضي، لذا فإن محاولة ابن رشد التوفيقية لم تحقق أغراضها، لما فيها من استعلاء فكري أقامته لفئة الفلاسفة البرهانيين على حساب الجدليين.

إن فلاسفة الإسلام ابتداء بالكندي وانتهاء بابن رشد اعتقدوا خطأ بوحدة الحقيقة الفلسفية، متجاهلين تباين مناهيها، لذا أخفقت كل محاولاتهم فيها: منها محاولة الفارابي الجمع بين رأيي الحكيمين أفلاطون وأرسطو، ومحاولة ابن رشد الجمع بين الحكمة والشريعة.

إن طروحات ابن رشد لاتزال تثير الإعجاب والخلاف، وهذه إحدى نقاط قوتها، لذا فاستدعائه اليوم إلى معركة معاصرة وإعطاؤه فيها دور القائد والنموذج والمتراس والملجأ، لا يخلو من الالتباس! ففي هذه الطموح الاسترجاعي شيء من التعالي على قدر من العقبات، والوقائع

إلا أن الغالب اليوم على المثقفين العرب عموماً إضمارهم الحاجة الماسة لما يمثله ابن رشد في تاريخهم الفكري العريق، إن لم يكن إلى فلسفته برمتها، فأمله حتماً إلى منهجيته العقلانية النقدية التي لا يعني إعمال العقل فحسب، بل الثقة المطلقة بقدرته وحده على بلوغ الحقائق في مختلف الميادين من غير استثناء، وبأن لا أداة معرفية موثوق بها سواه، وبأنه واحد عند سائر بني البشر على اختلاف أجناسهم ومعتقداتهم  وأصقاعهم، به يحققون وحدتهم الإنسانية، وبه يتعاونون معاً لبناء الحضارة الإنسانية الواحدة وإغنائها مستعيناً المتأخر منهم بالمتقدم (أكان مشاركاً أم غير مشارك له بالملة).

العدد 1104 - 24/4/2024