غسان كنفاني شاهداً وشهيداً: ذاكرة لألف عام

أحمد علي هلال: 

(لأن موت غسان كنفاني ليس موت كاتب أو مناضل فقط، إنه انفجار قضية، قضية شعب، وقضية وطن)_ محمود درويش

لأن استعادته في غير زمن وغير سياق، يبدو غسان كنفاني الآن شاهداً على فصول المأساة الفلسطينية بأبعادها التراجيدية/ الإنسانية، تلك التي شكلت له منذ قصته الأولى (شمس جديدة) عام 1956، هاجساً ملحاحاً راح يتنامى ويتواتر في العديد من قصصه ورواياته ومسرحياته، ومعها تنوع أسلوبه ليقارب فلسطين كقضية قائمة بذاتها، وكتب عن أطفال فلسطين وعن الإنسان الفلسطيني وعن آمال الفلسطينيين، لتكتمل في رؤيته فلسطين بوصفها رمزاً إنسانياً متكاملاً، فهل يمكن القول تالياً إن فلسطين شكلت عالمه الإبداعي، الواسع الطيف، والمشبع بأسئلة التحولات التي شهدتها مأساة فلسطين؟ وبالمقابل إن التقاط المعادل الكتابي للقضية بهذا المعنى هو كناية عن وعي غسان كنفاني الذي اختبره بذاته صحفياً أرهقته الكتابة المسائية والقراءات المستمرة ذات الحمولات المعرفية المتنوعة، لا سيما في الأدبين العربي والعالمي، لنقف على تاريخٍ حفر أنساقه المعرفية في وعي غسان كنفاني، وتصاديات ذلك الوعي فيما نشتق له من تعبير مدوناته السردية وثراء محكيها عن جدل الإنسان وقضيته، والأدل هنا ما حملته قصصه المبكرة وصولاً إلى مجزوءاته وقصصه التي لم تكتمل، وما بينهما من روايات/ علامات، وضعت قارئه كما الناقد الأدبي أمام تحدٍّ مثير: (في وسع الناقد الأدبي الآن أن يلاحظ أن قصصي لا تتناول الفرد الفلسطيني ومشاكله فحسب، بل تتناول حالة إنسانية لإنسان يقاسي من المشاكل إياها، ولكن ربما كانت تلك المشاكل أكثر تبلوراً في حياة الفلسطينيين)، قال غسان ذلك ولم يكتف بتحفيز نقاده على استبطان عوالمه، وهم المنشغلون حتى اللحظة بها وفق مستويين أولهما لشهية سجال لما ينتهِ بعد، أي ما بين الرواية كشكل أيديولوجي وما بين المستويات الفنية بتقنياتها المحسوبة.

ومنها ما ذهب إلى الإيحاء بأن غسان كنفاني كان على مسافة واحدة من كل شخوص قصصه، التي عكست الواقع منذ أوائل الستينيات، ومنها ما رأى فيما دوّنه غسان كنفاني من إرهاصات مؤسسة لما سمي (بعلم الجمال الثوري في الأدب العربي)، إذ البطل الأدبي معادل للصورة الإنسانية، كما شعور المنفي المعذب الذي ينعطف إلى الأمام، كما شعور المنفي المعذب الذي ينعطف إلى الوراء، لاحظ ذلك الدرس النقدي المنهجي وهو يتقرى قصصه الأولى ومنها على سبيل المثال: (السرير رقم 12، البومة في غرفة بعيدة، شيء لا يذهب، منتصف أيار)، وعلى مستوى آخر ثيمة المنفى وتجلياتها كيف تنعطف بالكتابة لتجلو غير بعد للنص الأدبي، وأمثلة ذلك كثيرة ومنها: (عن الرجال والبنادق، والأعمى والأطرش، برقوق نيسان) وصولاً إلى (أم سعد) أي التجسد الكامل والواعي لموضوعة المناضل الثوري، أو الإنسان الفلسطيني الجديد في المخيم، وهو ما اشتق له النقاد ما سمي بالثورة الثقافية (ذوبان المثقف في المقاتل، والمقاتل في الجماهير) من أجل وحدة جدلية تنضاف إليها جدلية التماثل والاختلاف.

فغسان كنفاني داخل ما يمكن تسميته بالشرط التاريخي الثقافي، الذي حتم جملة من منظومات للتلقي، وهذه المنظومات بطابعها الجدلي، فرضت غير شكل لذلك التلقي، أي أن يكون منتجاً داخل شرطه ومستشرفاً لما بعده، وهنا نقبض على غير آلية لتفسير النص الأدبي وفق محموله الدلالي، إذ إن غسان كنفاني قد شُغل بفلسطين بوصفها إنساناً، فحياة غسان كنفاني القصيرة مكّنته من الالتصاق بما اجترحه وعيه أولاً، فمعلم الرسم الذي عرفته دمشق في مدارسها في الزمن الماضي، لم يشأ لطلابه أن يرسموا بضع حبات من الفاكهة، بل قادهم إلى رسم صورة المخيم، ومعه وجد الدارسون صعوبة واضحة في محاولة تصنيف شخصيات غسان كنفاني، وكما يقول محمود درويش: (لأن فصل الواحدة عن الأخرى قد يؤدي إلى عملية قتل، لأن غسان كان واحداً لا يتجزأ مهما تعددت ظواهره ومظاهره التعبيرية، وهذه الحقيقة النادرة في تاريخ ممارسة الكتابة العربية الحديثة، هي بحد ذاتها، ما تعطي غسان كنفاني هذا الحجم الذي يفجر حياته القصيرة ويتجاوزها، أي أنه_ يضيف درويش_ شبيه بالينبوع الذي لا يتسع مجرى النهر لغزارة مياهه، ففيض جداول فرعية توهم الناظر إليها بأنها مختلفة، وهي ليست سوى أشكال متعددة لجوهر واحد).

إن استعادة غسان كنفاني اليوم، لا تعني في ماهيتها سوى استعادة لأنساق معرفية بخصوص الكتابة والهوية والقضية، بصرف النظر عن التحديدات الأخلاقية المسبقة، فداخل تلك الأنساق كان غسان كنفاني يحفر فيها عميقاً ليستولد ما يعني تجربته القصيرة والزاخمة بالمتغيرات، على أن تكون درساً أنموذجياً لملحمتين (ملحمة شعب، وملحمة قضية).

فهل كان غسان هو الرواية المستحيلة، أو أن روايته اكتملت باستشهاده المدوي؟ من البساطة بمكان أن يكون الجواب هكذا، لكن السؤال الكبير والفادح الإجابة أن غسان كان فكرة قلقة، بل أكثر من ذلك هو من كان يواسيها بقلقه النبيل، واجتراحه غير شكل تعبيري لمقاربتها، من التشكيل إلى الكتابة المسرحية إلى القصة القصيرة والرواية، دون التخفف من المقالة السياسية الحارقة في مجلته (الهدف)، التي حملت مشروعه ليتماهى بفلسطين حقيقة ورمزاً أكثر منها تخييلاً أدبياً تحتاجه تقنيات الكتابة، أي أنه الباحث عن القيمة وسط متغيرات الكتابة وإحداثياتها واستحقاقات الكتابة في غير زمن اخترقه ليبث حقائق فيه مازالت تبدو ظاهرة للعيان، من مثل روايتيه العلامتين (رجال في الشمس، وعائد إلى حيفا) اللتان تُستدعيان إلى الذاكرة، ليس محاكمة لواقع بعينه، بقدر ما كانت تحريراً لوعيه الإيديولوجي باتجاه حقائق إنسانية مازالت تمثل اليوم منصة للإلهام والتأويل والبحث عن المشترك، وهذا ما يلقي على الدرس النقدي ليس عبء الاستعادة بذاكرة مثخنة، بل أكثر من ذلك تمثل هاجس غسان الرئيس في أن يكون الوطن هو المعادل للإنسان بصرف النظر عن هويته، وما يعني أيضاً أن الفكرة التي كان غسان كنفاني مجازها الكبير تشي بصيرورات محتملة لتأويل أدب مازال في حيز الاشتغال والدرس أبعد من استظهاره فحسب، وصولاً إلى جدليات البناء الفني والقيمة المنشودة.

فمن أين يبدأ غسان كنفاني وإلامَ ينتهي؟ وما بينهما رواية لعلها في الزمن المفتوح هي الرواية الكبرى التي اجتازت عتبة الموت وعتبة الحياة، رواية الأرض التي عجز قتلته عن انتزاعها من الذاكرة.

العدد 1104 - 24/4/2024