دفاع عن الكتابة.. والحياة

غياث رمزي الجرف: 

(..الدفاع عن غسان كنفاني، أمام أخطاء من لا يرى فيه غير موته، هو دفاع عن الكتابة وعن الحياة… ومصرعه شهادة على فاعلية الكتابة لا نفياً لها… وتاريخ تبلور النثر الفلسطيني الجديد يبدأ من غسان كنفاني)_ محمود درويش

_1_

في شرق الأرض وغربها هناك كتابات ونصوص إبداعية صمدتْ أمام الزمن وخَلَدت، ومنها مسرحية شكسبير (يوليوس قيصر) التي ما برحت تسري في جنبات الكرة الأرضية. ففي هذه المسرحية يخاطب القيصر ذراعه الضاربة وجليسه المختار (أنطونيوس) قائلاً: دع من الرجال من هم خالو البال يتحلقون حولي. من هم مسطحو الرؤوس، وينامون في الليل جيداً.. أما (كاسيوس) هناك، فله نظرة باردة صارمة. إِنّه يفكر أكثر مما ينبغي.. إنه يقرأ كثيراً، ولا يحب اللعب.. إنه لا يسمع الموسيقا مثلك يا أنطونيوس، ويضحك نادراً… مثل هؤلاء الناس لا يملكون هدوءاً أبداً.. إنهم خطرون (…)؟!

الشاهد والشهيد غسان كنفاني رفض رفضاً قاطعاً أن يكون من الصنف الأول الذي دعا إليه (يوليوس قيصر) كما رفض أن يكون مداحاً وطبالاً ومهرجاً في الحضرة (القيصرية) واختار، وبكثير من الوضوح والقناعة والحزم والاقتدار، أن يكون (كاسيوسياً)، فقد فكّر (أكثر مما ينبغي) وكان ناموسه (تحيا الحياة فوق الأرض، لا تحت الطغاة.. تحيا الحياة). وقد جمع (غسان) بين قلمه النظيف والكفاح لتحرير وطنه المغتصب، والوصول بشعبه وأمته إلى الحياة الحرّة الكريمة. وعمل من أجل عالمٍ أكثر نقاء وجمالاً وإنسانية وعدلاً. وحلم بخبز غير ممزوج بالدموع، وبغدٍ (لا نرفع فيه آيات الحبّ إلى من لا نحب). كما ناهض تلك المخلوقات المتوحشة التي تعتاش على الإرهاب والقتل وامتصاص الدماء. وناصر، على هذا النحو أو ذاك، ذلك (النداء الحار الذي وجّهه (مكتشف روحي إلى مكتشف جغرافي)؛ أي: نداء (مايا كوفسكي) المفترض إلى (كولومبس) بإغلاق (الجغرافية الملعونة) أمريكا، بغية تنظيفها.

هكذا دخل غسان كنفاني، من وجهة نظر الصهيونية والإمبريالية، دائرة المَحْظورات والمُحَرّمات، وأصبح (خطراً) لا بدّ من التصدي له، ومن ثم القضاء عليه بهذه الطريقة أو تلك، بأي ثمنٍ وبأي وسيلة.

وكانت شهادة غسان كنفاني، وكانت الساعة الحادية عشرة والدقيقة الخامسة والأربعين من صباح يوم الثامن من تموز عام 1972، فقتلة الكيان الصهيوني وبرابرته الذين يملكون السلاح والسطوة والجبروت ويتمتعون بالدعم الغربي الامبريالي الأمريكي المطلق وتواطؤ أنظمة ومملكات وسلطنات ومشيخات عميلة تاريخياً، هؤلاء جميعاً لا يخشون البنادق (الشريفة) فحسب، بل يخشون أيضاً، وبدرجة أعلى، الأقلام النظيفة، ولا سيما تلك الأقلام المناضلة مثل قلم غسان كنفاني المعجون بشرف الإخلاص لقضية العمل الثوري البناء ونزاهته.

_2_‏

إن المحور الأساسي لجميع كتابات الشهيد غسان كنفاني كان الواقع السياسي الاجتماعي الفلسطيني خاصة والعربي عامة، الذي ترعرع في ظله وعاشه لحظة بلحظة، والذي تأصل في نفسه وتمكّن من وجدانه، فهو مسكون بقضايا الوطن والأمة، إلا أن ما يميز غسان عن معظم المهمومين والمنشغلين بقضايا الوطن والأمة الذين كتبوا كتابات أدبية تناولت فلسطين قبله يتجلى في النقاط التالية: ‏

ـ لم ينظر غسان الى قضية فلسطين كقضية لاجئين، ولم يعمد الى إثارة الأسى والحزن والشفقة والشجن لدى القارئ، ولم يعطِ صورة مسطحة وجاهلة ومزيفة للواقع، ولم يقدم شخصياته بشكل سطحي وعاطفي وبائس، بل واجه شخصياته الفلسطينية مواجهة إنسانية، ورأى إمكانات التمرد والرفض في المخيمات التي تحولت في كتاباته إلى أمكنة شديدة الخصوبة ترفض الهزيمة والفناء. ‏

ـ ولم ينظر الى هذا الواقع في سكونه على أنه معطى ثابت جامد ومعزول، بل نظر إليه في صيرورته على أنه معطى متحرك متحول ومفتوح. وهكذا تمكن غسان من رؤية تلك العلاقة الجدلية بين الماضي والحاضر والقادم. ‏

ـ ومن ثم استيعابه الرفيع لهذا الواقع السياسي_ الاجتماعي. ‏

ـ حساسيته المميزة ووجدانيته الرهيفة وإنسانيته العميقة. ‏

ـ اهتمامه الواعي بالشكل الفني، فالأدب ليس تعبيرات عفوية تلقائية ونيات حسنة وليس منشورات سياسية واجتماعية. ‏

لقد استخدم غسان كنفاني في بنائه المعماري وسرده الروائي البناء العضوي الكلاسيكي (عائد الى حيفا) والبناء الملحمي (أم سعد) والبناء العضوي_ الملحمي (رجال في الشمس) والتجريبي /تيار الوعي (ما تبقى لكم). وفي عالمه القصصي استخدم أكثر من أسلوب وشكل: استخدم الشكل الواقعي (أرض البرتقال الحزين) والشكل الواقعي المطعّم بالفانتازيا والحكايا الشعبية (المنزلق) والشكل التجريبي (الأخضر والأحمر). وهذا العالم الروائي_ القصصي الكنفاني زاخر بالصور والرموز والدلالات (صورة البومة المعلقة على الجدار_ البرتقالة الجميلة التي تجف_ الخزان/ المقبرة/ الصحراء/ الجحيم/ العلاقة المتبادلة بين خيمة اللجوء وخيمة الثورة).

_3_‏

كتب غسان كنفاني القصة القصيرة والرواية والمسرحية والدراسة، فإلى جانب مجموعة كبيرة من المقالات المنشورة في الصحف والمجلات اللبنانية والعربية، أودعنا: ‏

ـ أربع مجموعات من القصص القصيرة ومنها: أرض البرتقال الحزين، الصبي يذهب الى المخيم، المنزلق، الأخضر والأحمر، البومة في غرفة بعيدة، موت سرير رقم 12.

ـ مسرحية (الباب) ودراسات مختلفة أبرزها: أدب المقاومة في فلسطين المحتلة- في الأدب الصهيوني.‏

ـ أربع روايات هي: رجال في الشمس، ما تبقى لكم، أم سعد، عائد الى حيفا. ‏

في روايته الأولى (رجال في الشمس 1963) يقول غسان كنفاني لشعبه العربي الفلسطيني: عليك بالخلاص الجماعي لأن الخلاص الفردي عقيم وعبثي. وفي روايته (ما تبقى لكم ـ 1966) يتابع رسالته قائلاً: أيها الشعب عليك الانعتاق من قيود الماضي وسجنه وتجاوز العجز والاحباط واليأس. ‏

–     بقي أن أشير إلى أن غسان كنفاني كان أول من أعلن، من الناحية التاريخية، عن وجود شعر في الأرض المحتلة فلسطين، وأول من أطلق لفظة (مقاومة) وجعلها رائجة شعرياً، وكان، كذلك، أول من دلّ العالم العربي على أدب الأرض المحتلة، وقام بجدارة واقتدار بكسر الحصار المحكم المضروب على أبناء الشعب العربي الفلسطيني داخل فلسطين المحتلة، وألقى الضوء على مواقع ومواضع صمودهم وتمردهم ورفضهم لكل مفردات الاحتلال الصهيوني على جميع المستويات، وفي مختلف الميادين.

وبعد، غسان كنفاني نقل الحبر إلى مرتبة الشرف، وأعطاه قيمة الدم. هو كاتب الحياة، لم يكن الموت – كما يقول نشيد الشعر العربي المعاصر محمود درويش- هدفه لأنه لم يكن عاجزاً عن الحياة في الكتابة، ولأنه لم يكن بعيداً عن حركة الفعل الفلسطيني الثوري. وكان توحده في الفعل الكتابي، الذي يبلغ حدّ التصوف، نوعاً من استرداد حياته في حياة شعبه، وصياغتها في مسرى الحلم العظيم.

Giathaljrf30@gmail.com

العدد 1104 - 24/4/2024