القطاع الخاص يلتهم الرسمي بقرار
د. أحمد ديركي:
يدخل القطاع الخاص إلى النظام الاقتصادي بذريعة أن القطاع الرسمي لم يعد في استطاعته تلبية حاجات الشعب. يعزى سبب فشل القطاع الرسمي في تلبية الحاجات إلى كونه قطاعاً يعاني من مشاكل متعددة، ومنها: ترهل هيكليته الإدارية، فائض التوظيف فيه، بيروقراطيته القاتلة، (المحسوبيات)، والعديد العديد من المشاكل غيرها. أمر يستتبع منطقياً استنتاجاً مفاده أن (الدولة رجل أعمال فاشل) بكونها المسؤول الأول والأخير عن هذا القطاع.
بعد تعميم فكرة (الدولة رجل أعمال فاشل) يأتي القطاع الخاص على صورة (سوبرمان) لإنقاذ الرسمي مما يعانيه من أمراض متغلغلة فيه أوصلته إلى درجة (الأمراض المزمنة)!
ولأن القطاع الرسمي مصاب بأمراض مزمنة فهذا يعني أن الأمل في الشفاء منها شبه معدوم، وأن فترة علاجه قد تطول. وهنا (سوبرمان) هو ذاك الرجل الحكيم الرحيم آت للإشراف على (الموت الرحيم) للقطاع الرسمي والحلول مكانه. أي ليكون (وريثه الشرعي). عبر هذه الآلية تنتفي صفة (رجل أعمال فاشل) عن الدولة لتصبح (الدولة) مجرد اسم لا صفة لها! وان امتلكت صفة تكون صفة (المُشرع) للقطاع الخاص.
تأخذ عملية الإشراف على (الموت الرحيم) للقطاع الرسمي تسميات متعددة، ومنها: (الشراكة)، و(المشاركة)، و(التشاركية)… فتخرج الدولة من اللعبة الاقتصادية بأقل الخسائر الممكنة.
قد يكون القطاع التعليمي أحد الأمثلة البارزة لتوضيح كيفية إشراف القطاع الخاص على (الموت الرحيم) والوراثة الشرعية للقطاع الرسمي تحت رعاية (رجل الأعمال الفاشل).
بدأت الحكومات المتعاقبة تسمح للقطاع التعليمي الخاص بالدخول إلى القطاع التعليمي في المراحل الابتدائية، ووصل تدريجياً إلى المرحلة الثانوية. حافظ القطاع الرسمي للتدريس على تدهوره شبه الثابت على كل الصعد، من تعليم اللغة الاجنبية وصولاً إلى تأهيل أساتذته وهيكلياته الإدارية وأبنيته. في المقابل بدأ القطاع التعليمي الخاص بتخطي معظم هذه الثغرات والاستفادة منها، وانعكس هذا بشكل واضح وواسع في المجتمع، وعُمِّمت فكرة أن المدارس الحكومية (لا تنفع لنافعة).
ولأن الاستثمار الأهم للأهل هو الاستثمار في أولادهم، فقد دفعهم إلى التقشف في العديد من الأمور الحياتية في سبيل توفير القسط للمدارس الخاصة ومستلزماتها الجانبية. فهيمنت فكرة (رقيّ) المدرسة الخاصة في المجتمع، وبدأت المدارس الخاصة تنتشر كالفطر.
تطور الأمر ليطول كل المستويات التعليمية وصولاً إلى التعليم الجامعي! مع (الدردرية) استكملت الحلقة وقِيدت الجامعة الرسمية، كالمدارس الرسمية، إلى (الموت السريري).
بدأت الجامعات الرسمية باستقبال الطلاب، لكن ليس كل الطلاب! المبدأ الاساسي لاستقبال الطلاب فيها يعتمد على مقدرة الأهل على دفع الرسوم الجامعية، التي تفوق في أحيان كثيرة أضعاف دخل أصحاب الدخل المحدود والطبقة العاملة والفئات المهمشة. والشرط الثاني لهذا القبول معرفة اللغة الأجنبية هو معدلات القبول المرتفعة. وما بين المقدرة على دفع الرسوم الجامعية، والمعدلات المرتفعة أُغلقت الحلقة.
على الرغم من إقفال الحلقة وخلق (النخبة) المجتمعية، بقيت حلقة فارغة لم تستكمل، وها نحن اليوم نشهد استكمالها! تكمن هذه الحلقة (بجذب) الأساتذة الأكاديمين باتجاه الجامعات الخاصة من خلال دفع رواتب تعتبر خيالية إذا ما قورنت مع رواتب الأساتذة الأكاديميين في الجامعة الرسمية. فعلى سبيل المثال راتب الأستاذ في الجامعة الرسمية يصل إلى حدود 150 دولار للدكتور الأستاذ، مقابل 1000 دولار في الجامعة الخاصة!
في ظل هذا (الإغراء) الفائض عن حده، من البديهي أن يسعى كل أستاذ دكتور إلى الانخراط في الجامعة الخاصة ليعمل فيها. وبهذه الطريقة تُفرغ الجامعة الرسمية من الكادرات الأكاديمية المهمة ويتدنى مستوى التعليم فيها، ما ينعكس سلباً على خريجيها، وتستكمل حلقة تعميم الفكرة المهيمنة في المجتمع حول القطاع التعليمي الرسمي برمته من المرحلة الابتدائية إلى الجامعية.
أما على المستوى المجتمعي فإن هذا الفرز الطبقي الصارخ ما بين قطاعي التعليم الرسمي والخاص يمتّن احتكار (النخبة) اكل مفاصل حياة البلد. (نخبة) تحتكر المال لترفقه عبر القطاع التعليمي الخاص باحتكار (المعرفة) التي يحتاجها سوق العمل فتخلق (كانتون) مغلق بأسوار إيديولوجية متحكمة بكل شيء!
ما كان للقطاع التعليمي الخاص أن يصل إلى ما وصل إليه لو لم يحظَ بدعم تشريعي يخوله التهام الرسمي، وما كان للقطاع التعليمي الرسمي أن يصل إلى ما وصل إليه ما لم يكن قد أعيق من التقدم ومنافسه الخاص عبر تعقيد تشريعاته.
وهنا يمكن أن يطرح السؤال التالي: هل (الدولة رجل أعمال فاشل)؟ أم أنها تعمل على تعميم هذه الفكرة دعماً للقطاع الخاص لتنسحب من الحياة الاقتصادية وتصبح الطبقة البرجوازية طليقة اليد من دون قيد او رقيب؟