أخلاقـيات الإدارة وإدارة الأخلاق

د. سنان علي ديب:

من المؤكد أن ما نراه اليوم من فساد مسرطن متفشٍّ أفقياً وعمودياً، وترهّل وفقدان ثقة بين المواطن والمسؤول، توسع ليأخذ صفة معولمة باستثناء دول داعمة وقائدة للوصول إلى هذه الحالة، له ودليل ساطع وبرّاق على السوء والخلل الذي تدار به الأمور بشكل جزئي أ وكلي. فالتقيد بالضوابط والقوانين وعدم الخروج عنها لا يمكن أن ينجم عنه مخرجات كهذه. فللإدارة قوانينها الناظمة لها والمسيّرة لتوازنها، والخروج عنها يؤدي إلى الخلل والانحرافات الخالقة للفوضى التي يزداد حجمها بازدياد حجم الانحراف عن القوانين. ما يعني عدم وجود جهات مراقبة ومتابعة ومحاسبة للسلوكيات أ ووجودها ظاهرياً من دون فعالية، مما يساعد ويساهم بزيادة هذه الانحرافات. فما الداعي لوجود هياكل رقابية دورها منع اي خلل أ وخروج عن القوانين المؤدية للخروج عن الدور المنوط بالإدارة سواء جزئية على مستوى المؤسسة، أ وكلية على المستوى التنموي العام. وهذا الأمر لم يكن بمعزل عن الإدارة العالمية والتي تدار وتسير بعقلية منفردة بعد أن تخلصت من أغلب خصومها وكابحي انفلاتها، فغابت الروادع عن مسيرتها البعيدة عن الإنسانية والمحللة كل الأساليب للوصول إلى أهدافها المالية والمادية. هذه الإدارة المنفردة التي استغلت جهود الأغلبية لمواجهة الإيديولوجيات والعقائد المبنية والهادفة لاحترام إنسانية الإنسان وللحرية المنضبطة وللعدالة الاجتماعية عبر تأمين الحقوق لعامة الناس، حق العيش والعمل والتأمين والصحة وتقرير المصير، وهذا كله لن يكون إلا عبر برنامج اقتصادي اجتماعي موجه وتقوده المؤسسات الممثلة لكل الشعب عكس التوجه الآخر المعتمد على مبدأ نحن ومن بعدنا الطوفان. هذا الصراع جعل الدول المعادية للعدالة تتبنى برامج اجتماعية وتراعي متطلبات داخلها ونقاباتها لتفريغ أي صراع طبقي مع النهج الآخر.

ومن ضمن أدوات الصراع شيطنة الافكار والايديولوجيات وعولمة الفساد والانحلال القيمي والخلقي ومحاولة إيصال شخصيات تابعة لا تملك أفقاً وطنياً أ وأفقاً إنسانياً اجتماعياً، ومحاولة تسخير تجار الأديان لصنع خندق عام مواجه لمن يعمل وفق منظور العدالة الاجتماعية، علماً أن روح الديانات ومبررات نزولها وغايتها تحقيق العدالة الاجتماعية ونصرة الإنسان.

والمهم عند انتصار قوة الرأسمال الملون باللاإنسانية وبالدماء وبإبادات جماعية جاء دور صفوته وما صنع من ركائز ومرتكزات عبر خلق تكتلات عابرة للعالم وعبر خرق الدول بمنجزات التقدم التكنولوجي لعولمة المال والاقتصاد، هذا الدور المدعوم من مؤسسات عالمية سخرت لفرض نموذج اقتصادي على الدول لا يراعي خصوصيتها وحاجاتها، ويؤدي إلى تهشيم بناها وخلخلتها لتصبح أداة بيد المعولم الأوحد الذي لن يقبل أي آخر يدلي بدلوه ويفرض رؤيته ويمنع مواجهته أ ومساواته وه والأمريكي الأمر الناهي، وحتى من ساعدوه واستندوا عليه ليصل إلى مرحلة ما بعد العولمة وإلى مرحلة عصارة قذارة الإمبريالية يجب أن يخضعوا ويسيروا وفق شروطه وأهوائه. فمن يملك التفوق العسكري بالعدد والانتشار، ومن خرق كل بلدان العالم عبر أدواته وأتباعه، ومن جعل عملته معيار كل تبادل اقتصادي، وهذه العملة مدعومة عسكرياً ولا ضوابط لها ولا معايير أ وغطاء لها، وبالتالي سخر ما سماه عولمة ليكون الآمر الناهي في ظل عالم معولم مالي قادر على هزّه كما حصل ،2008 وفي ظل عالم طاقوي مسيطر على مناجمه ويسعى للسيطرة على طرقه، وفي ظل عالم ضاعت هوياته الجزئية عبر سلوك شيطاني غير منضبط وغير إنساني وغير خاضع لأي مساءلة، وفي ظل فوضى عارمة مبرمجة للوصول لها. وهذه الفوضى من أهم أدوات الغطرسة والتكبر والعدوان لمن جعل نفسه مسؤولاً عالمياً بيده كل شيء.

فمن محاولة تشويه الإيديولوجيات وحرفها وقتل المؤمنين بها إلى تشويه المذاهب وشيطنتها وتأجيج صراعها واختلاق المبررات لإبادات جماعية، إلى تحرير الفضاء الإعلامي وبث السموم به من دون ضوابط، لتحويل البشر إلى كائنات غرائزية مستهلكة مفرغة منقادة وفق معادلة بيتي محصّن فلتعمّ الفوضى العالم! ثم تبنّي سياسة فساد وإفساد معولم تعددت أنواعه وأدواته لاختراق بلدان أضعفت بناها وهشمتها.

وهنا نتساءل: هل هذا يعني أن اللوحة سوداء غير قابلة للتنظيف والإصلاح؟ من المؤكد أن العنوان الهام للمواجهة ه ومحاولة تقوية الدواخل وعلاج الخصوصيات وإعادة الهوية الوطنية والانتماء، ومحاولة تكريس المنظومة القيمية وإعادة الاعتبار لها، فلا يمكن أن تفتح نوافذك لطوفان كهذا، ولا يمكن إغلاق جميع المنافذ والكل فتح نوافذه وحصل ما حصل عبر أقذر الأسلحة وأسوأ استعمال للحداثة وتقنياتها.

فمن يستطيع المواجهة والمحافظة على كيانه من السقوط يستطيع أن يعيده وفق ضوابط ناظمة ومعايير حقيقية تكرس الانتماء، وهذا يكون بتكامل الجميع وتعاونهم للسير في هذا الطريق، وكلنا يعلم أن المنظومة الأخلاقية كضابط اجتماعي ناجمة عن الأسرة ومؤسسات التعليم والمؤسسة الدينية والإعلامية والمجتمع الأهلي، وقد كان من ضمن أدواتهم تشويهه ومحاولة خلق منظمات مجتمع مدني أبعد ما تكون عن البناء، وأغلبها استخباراتي، هدفه التخدير وقلب المعايير وتقزيم السلطات المحلية وخلق شخوص تابعة لصانعيها. هذه المؤسسات بحاجة إلى جهد كبير للوصول إلى برنامج متكامل لإعادة الروح للمجتمع. ولكن من دون السير ببرنامج عام لا يمكن نجاح إعادة الدور لهذه المؤسسات، ومن هنا نقول وكما صرح البعض كان للتعيينات غير القائمة على الكفاءة والنزاهة دور محوري بالانفلات والفساد والإفساد، ولذلك فإنه من دون برنامج إصلاحي عام يعتمد على شخصيات ذات كفاءة ونزاهة وأفق تسير وفق برنامج واضح بتواقيت معينة، وبمتابعة ومحاسبة مستمرة، لن نصل إلى ما نريد وإلى ما دفعنا الغالي والرخيص من أجله. كل مجتمع بلا معايير قيمية وأخلاقية غير قابل للصمود ولا للاستمرار، ومن يتخلَّ عن قيمه وأخلاقه يجعل نفسه كريشة في ظل رياح عاتية.

العدد 1104 - 24/4/2024