ذنب أقبح من عذر

شروق ديب ضاهر:

طالعتنا قنوات التلفزة التابعة للنظام الحاكم في السعودية في الفترة الأخيرة بظهور الدعاة الاسلاميين المتشددين على منابرها بشكل متتابع، يقدمون اعتذاراتهم إلى المجتمع السعودي عن الفكر الذي كانوا يروّجون له تحت مسمى الصحوة الإسلامية، ويعلنون عودتهم إلى الفكر الإسلامي المعتدل المنفتح الرشيد.

هكذا، بكل بساطة، يعتذر الدعاة عن نهجٍ متطرفٍ منغلقٍ ضارب في مغاور التاريخ، موغل في التشدد ملوث بالبغض الطائفي والحقد على كل من لا ينتمي إلى سواده الكالح، بل على كل من ينتمي إليه ولا يطبق تعليماته بحذافيرها، هكذا بكل بساطة يعتذرون عن سلاسل من الفتاوي تتابعت على مدى عشرات السنين، ضيّقوا فيها كلّ واسع وحرموا كل ما يضفي على نفوس البشر سلاماً وجمالاً، ابتداءً من الفنون بمختلف مجالاتها من رسم ونحت ورقص وغناء وموسيقا ومسرح وسينما، وانتهاءً بتحريم قيادة المرأة للسيارة وتقييد حركتها بشكل يصعب على مخيلة الإنسان السوي إدراكه، فضلاً عن ربطه الحياة المجتمعية بمجملها بمنظومة منغلقة مهترئة من التشريعات والأحكام الكفيلة بجعل من يعيش تحت وطأتها يعتقد جازماً بأن أبا لهب وأبا جهل ما زالا على قيد الحياة، يعدّان العدّة ويحيكان المؤامرات لضرب الإسلام في مهده.

في النهاية ما يحدث في بلاد الحجاز أمرٌ يخص أهل الحجاز وأهل مكة أدرى بشعابها لهم مطلق الخيار نظرياً في قبول الاعتذار أ ورفضه، رغم تشكيكنا عملياً في حرية هذا الخيار. الاعتذار موجَّه إلى المجتمع السعودي وكأن عواقب الأمر كانت مقتصرة عليه، ونسي دعاة الفتنة أ وتناسوا فتاوى التحريض على حمل السلاح ووجوب الجهاد في (أرض الرباط ودار الحرب سورية)! نسي دعاة الفتنة أ وتناسوا خطبهم العصماء التي أقسموا فيها بأغلظ الأَيمان والدمع يبلّل لحاهم والتهدج يراود حناجرهم بأنهم رأوا بأمهات عيونهم الملائكة وقد أَسرجت ظهور الخيل وراحت تحارب مع مجاهدي النصرة وطلاب الحور العين في سورية، نَسَوا أنهم باركوا قتال الأخ لأخيه، ونحر الأخ لأخيه في سورية، بينما حرّموا التظاهر في الحائل وقطيف، نَسَوا أنهم هللوا لقطع الرؤوس في الساحات، وصمتوا صمت القبور عن نشر جثث مواطنيهم في السفارات، نَسَوا فتاوى التحريض الطائفي وتكفيرهم للبشر والحجر في سورية، نسوا قنوات جمع الأموال التي أداروها لدعم الجهاد في سورية تحت شعار (جهِّزْ مجاهداً في سورية يجهّز الله لك مقعداً في الجنة)، نَسَوا أنهم لطالما توضّؤوا بدماء الأبرياء ودموع الثكالى، ولطالما تيمّموا ببارود الحقد والكراهية والتفخيخ. لكن للدم ذاكرة وتقويم، فالدماء لا تُنسى ولا تطالب باعتذارٍ من متلوّنين يتقلبون بتقلّب الأهواء وتغيّر مزاج السلطان، فيجعلون من الدين مطيّة يسوقونها حيث شاءت مصالحهم، فإن غيّروا وجهتها خرجوا على الناس وقالوا قد اجتهدنا فأخطأنا، سنكتفي بأجر الاجتهاد وشجاعة الاعتذار.

المسلم من سلم الناس من لسانه ويده، وما سلم من ألسنتكم وأياديكم بشر ولا حجر، وقبل حساب السماء ستحاسبكم دماء السوريين على الأرض، ستحاسبكم دموع المقهورين وآهات المكلومين، ستحاسبكم أحجار تدمر وبصرى المتهدمة، ستحاسبكم أعمدة الجامع الكبير المحترقة في حلب، سيحاسبكم رأس أبي العلاء المعري المقطوع، ستحاسبكم أشجار التين والزيتون المهجورة، ستحاسبكم ضفيرة الطفلة المنثورة وسنبلة القمح المكسورة، أما بالنسبة لأجر اجتهادكم الخاطئ المزعوم فقد تكفّل به رجال الوطن والشرف والإخلاص في سورية المجد، حين أعطوا لكلّ ذي حقٍّ حقّه، وكالوا الصاع صاعين لغربان الجهاد الأسود المغسولة أدمغتهم أن وجدت بفتاويكم، وها ه وذا قاسيون عاد متألقاً شامخاً بهيبته، مسوّراً برجالٍ عاهدوا الله والوطن وما بدّلوا تبديلاً، بينما بقيتم أنتم غائصين في مستنقع التكفير الذي صنعتموه بأنفسكم، فاجتهدوا للخروج منه وإياكم الخطأ هذه المرة.

طوبى لمن قال: على الباغي تدور الدوائر!

العدد 1104 - 24/4/2024