حول الجوانب الاجتماعية للمعرفة العلمية

يونس صالح:

تجاوز العلم دوره كعنصر من عناصر المعرفة الإنسانية الشاملة، فصار مرادفاً للمعرفة، وأصبح استخدامه أحد أسلحة العصر، ومعيار القوة في المجتمع الدولي.

يمر المجتمع البشري المعاصر بلحظات حاسمة من تاريخه الطويل، لحظات قد تؤدي به إلى ازدهار، ومستقبل مشرق، تتخلص فيه البشرية مما تعانيه الآن من جهل ومرض وفقر، وإما أن تفضي به إلى سبيل ليس فيه إلا الدمار المهلك الذي لا يبقى ولا يذر. وقد مرت بعض الشعوب بمثل هذه المواقف من قبل، مواقف مصيرية، واجهت فيها احتمالات بقائها أو فنائها، لكن ما يجعل هذا الموقف الذي تواجهه الإنسانية الآن يختلف عن غيره من المواقف السابقة، هو أن لموقف الحالي يهدد الإنسانية جمعاء، وينذرها بالفناء الشامل، في حين ما سبق من مواقف كان مقصوراً على جماعات وشعوب متفرقة، وحتى بالنسبة لتلك الجماعات والشعوب لم تكن مسألة فنائها كلية في عداد الممكن، فما يوجد الآن من أسلحة فتاكة كفيلة بالقضاء على كل مظاهر الحياة على سطح الأرض.

وما كان بالإمكان اختراع هذه الأسلحة، دون التغير النوعي والكمي الذي طرأ على المعرفة الإنسانية، ودون تطور العلم والتقنية وانتشارهما، وملاءمة الظروف التاريخية الراهنة التي جعلت العالم كله يبدو وكأنه قرية صغيرة، فالمعرفة الإنسانية قد صارت شاملة ومتاحة إلى حد ما لعدد كبير من الناس، من خلال وسائل التعليم والإعلام وغيرها، بينما كانت في الماضي مقصورة على فئات قليلة من الناس، يحتكرونها لأنفسهم، ويتداولونها في سرية كهنوتية، تجعل عامة الناس في عزلة ورهبة من هذه القوى الخارقة.

إن أهم ما يميز المعرفة الحديثة حسب رأي الكثيرين: أنها تعتمد على العلم كأهم مكوناتها، وقد جمع التغير في المعرفة ومكوناتها تغيراً في علاقتها مع المجتمع الذي تغيرت طبيعته ومكوناته أيضاً، وصارت العلاقة صعبة ومعقدة إلى حد بعيد. فإلى أي طريق تقودنا معرفتنا؟ وأي سبيل يسلكه بنا العلم؟ وقبل هذا وذلك ما هي المعرفة، وما هو العلم، وما موقعهما في مجتمعنا؟!

إن المعرفة هي خاصية يتميز بها الإنسان دون غيره من الكائنات الأخرى، وهي بدأت من اللحظة التي فضّل الإنسان أن يشق فيها طريقه في الحياة بمفرده، لكنها لا تتحقق عنده بصورة مباشرة ولا كاملة، ولا يتأتى له معرفة جوهر الأشياء كما هي مباشرة، وذلك لأن الإنسان يعرف الأشياء عن طريق (المعاني والرموز)، وعليه فإن معرفتنا بالكون وما يحويه هي معرفة متغيرة متجددة من زمان إلى زمان، عبر الحقب التاريخية المتعاقبة.

كما أن وسائل تحصيل المعرفة متعددة عند الإنسان، إذ يمكن أن تتم بواسطة العقل، ومن خلال التجربة التي تتحقق مباشرة بالحواس الخمس، وقد يضيف بعض العلماء طريقاً آخر من وسائل المعرفة، وهو الحدس، إلى الوسائل السابقة، على الرغم من صعوبة تعريفه وإثباته.

وللمعرفة الإنسانية درجات ومستويات، تحددها عوامل متعددة، بدءاً من العوامل الذاتية للأفراد، كدرجات ذكائهم ومدى خبرتهم، إلى الظروف الاجتماعية والتاريخية التي تضع أطراً لحدود المعرفة لأي مجتمع من المجتمعات، في حقب تاريخية محددة. وطبقاً للظروف التاريخية قد تسود بعض عناصر المعرفة أو مستوياتها على غيرها من العناصر والمستويات الأخرى.

ويتفق الكثير من العلماء على أن المعرفة قد تطورت عبر التاريخ ووصلت حالياً إلى المعرفة العلمية للظواهر. إن الإنسان في سعيه لمعرفة العالم المادي من حوله وتسخيره، كان لابد له من معرفة عناصر البيئة الطبيعية ومكوناتها والقوانين التي تحكمها، لكنه سعى في الوقت نفسه إلى تحديد علاقته بالقوى الطبيعية التي بدت له خارقة من جهة، وعلاقته بالبيئة الاجتماعية من جهة أخرى، وعليه كانت البدايات الأولى للمعرفة الإنسانية، وعلى الرغم من أوجه قصورها الشديد، متكاملة، ولذلك ظهرت بوادر المعرفة الأولى دون حواجز بين الفلسفة والدين والعلم الطبيعي وعلوم الإنسان، فتداخلت هذه العناصر بعضها مع البعض الآخر، دون انفصام، في وحدة تحاول أن تفهم وتفسر وتحدد طرقاً للعمل والتعامل مع عناصر الكون المختلفة، سواء أكانت طبيعية أم اجتماعية. إن نظرية الأخلاط الأربعة (الماء والهواء والنار والتراب) كانت محاولة لفهم القوى الطبيعية وتفسيرها، وتحديد صفاتها ومكوناتها الأساسية.

تغيرت الصورة في عهد الحضارة العربية الإسلامية، وبرزت طبقة من المفكرين أمثال الفارابي وابن سينا وغيرهما رأت أن الأدب والفن والفلسفة والدين والعلوم أجزاء من معرفة شاملة متكاملة، بيد أن الصورة في أوربا عصر النهضة وما تلاه من قرون فيما يعرف بالثورة العلمية وثورة الاتصالات قد تغيرت بصورة كبيرة.

لم يأت عصر النهضة بثورة فكرية وحسب، وإنما مهدت لها وصاحبتها ثورة اجتماعية أطاحت بالنظام الإقطاعي المتحجر، وحل محله نظام اجتماعي جديد يقوم على مبدأ (الحرية الفردية) عوضاً من نظام القنانة. وكان لابد من هدم أفكار النظام الإقطاعي، وعلى رأسها الفكر الكنسي الذي كان عقبة كأداء أمام تقدم الفكر.

وبانحسار تأثير الكنيسة أصبح الإنسان هو محور الكون، وهو المسيطر عليه من خلال عقله ومعرفته.

ونتيجة للتغيرات السابقة تغيرت النظرة إلى الكون، فصارت صورة الكون تمثل آلية ميكانيكية ضخمة، (كما فكر نيوتن) تحكمها قوانين الميكانيك التي تمثل علاقات القوى بين الأجسام والكواكب وبقية عناصر الطبيعة. بيد أن هذه الصورة تغيرت أيضاً مع مجيء علماء جدد مثل أنشتاين الذي صاغ النظرية النسبية، التي حلت مكان قوانين الميكانيك، ثم جاءت نظريات جديدة أخرى وأصبحت سائدة مثل النظريات المتعلقة بالضوء والفراغ والزمن في علاقات تسارع يصير معه كل شيء نسبياً.

إن علاقة العلم كجزء من المعرفة الإنسانية، بالمجتمع، علاقة شائكة، ومعقدة، وذات تاريخ طويل يساوي تاريخ المعرفة الإنسانية نفسها، فمهما قيل عن قصور بداية المعرفة الإنسانية لا يستطيع أحد نكران أنها كانت بداية محاولة الوصول إلى معرفة علمية، هذا بالطبع إذا وسعنا من معنى كلمة علم.

أما في العصر الحديث فقد صارت العلاقة بين العلم والمجتمع أكثر تعقداً وتشابكاً، واختلف الباحثون فيما بينهم حول هذه العلاقة، فمنهم من يقول بأن لا صلة بين العلم ونموه وتطوره، والتغيرات التي تحدث في المجتمع. وأصحاب هذا الرأي قلة، لأن فكرهم طوباوي لا يفسر تقدم العلم وازدهاره، إلا من خلال فكرة الإلهام الذي يأتي لأفراد متميزين.

وهناك فئة أخرى تنادي بأن المجتمع هو الذي يحدد بصورة كاملة طبيعة العلم ومحتواه وشكله، وعند أصحاب هذا الرأي أن العلم – كجزء من المعرفة- ما هو إلا انعكاس للعلاقات الاجتماعية بصفة عامة، وعلاقات الإنتاج على وجه الخصوص، وأن الاكتشافات العلمية لم تكن في واقع الأمر إلا تلبية لاحتياجات المجتمع العلمية الضرورية، ويستشهدون بالتغيرات الاجتماعية التي أحدثتها الثورة الصناعية.

هناك فئة ثالثة ترى أن تأثير المجتمع على العلم أمر لا جدال فيه، إلا أنهم لا يذهبون مذهب أصحاب الرأي الثاني كل المدى، لكنهم يرون أن شريحة من المجتمع هي التي تسيطر على مجريات أحداثه السياسية والاقتصادية، وتتحكم في كل ما يصدر وينشر في المجتمع، من خلال سيطرتها على وسائل النشر والجمعيات الأدبية والعلمية.. أي أن هيمنة فئة معينة على المجتمع يجعلها ذات مصلحة في التحكم في مؤسسات العلم وغيره، بحيث أن ما يخرج منها لا يهدد مصالح تلك الفئة، وأن يكون ملائماً للإيديولوجيا السائدة التي تخدم أهداف المجموعة المهيمنة، وبمعنى آخر فإن تأثير المجتمع في هذه الحالة يتحقق في نطاق الممارسة العلمية داخل مؤسسات العلم.

هناك فئة رابعة توافق على الرأي الذي يقول بتأثير المجتمع على العلم، إلا أنهم لا يضعون أهمية كبرى لكل عناصر المجتمع، وإنما يأخذون جانباً واحداً في المجتمع، وهو مستوى ثقافته، وما فيه من أفكار وقيم سائدة يتشبعها العلماء كأفراد في مجتمعهم، تؤثر فيهم عمليات التنشئة الاجتماعية وتؤثر لا شعورياً في اختيارهم لمواضيع بحوثهم ونتائجها.

وهناك فئة خامسة تقول بأن هناك تأثيراً متبادلاً بين العلم والمجتمع، إلا أنهم يركزون على أهمية تأثير العلم على المجتمع، وليس العكس، من خلال تطبيقات العلم العلمية وبخاصة في تطبيقاته التقنية، وقد قوي هذا الرأي في العقود الأخيرة من عالمنا المعاصر، حيث أصبحت التقنية جزءاً من حياتنا اليومية المعيشية.

أما الرأي السادس فيتحدث عن تأثير العلم على المجتمع، من خلال استخدام بعض فئات المجتمع للنظريات العلمية، لتأكيد آرائها في نطاق المجتمع، أي بمعنى آخر الاستخدام الإيديولوجي للعلم، كما حدث قديماً عندما استخدمت كلمة داروين الشهيرة (البقاء للأصلح) في غير موقعها الأصلي، فطبقت على المجتمع البشري لتوكيد أهمية مجموعة اجتماعية على أخرى، وكما يحدث الآن فيما نراه من نقاش حول ما يعرف بالبيولوجيا الاجتماعية التي يحاول بعض العلماء تطبيق نظرياتهم عن السلوك الحيواني على السلوك الاجتماعي.

إن علاقة العلم بالمعرفة من جهة، وبالمجتمع من جهة ثانية، هي علاقة شائكة ومعقدة، وقد كان ذلك نتيجة لتبادليتها وجدليتها، فالعلم جزء لا يتجزأ من المعرفة، يؤثر فيها وتؤثر فيه، وتضع له أطر حركته وتطوره، والمعرفة تثري وتغير من تركيبة المجتمع تحت ظروف تاريخية معينة، لكن المجتمع أيضاً يضع للمعرفة حدودها، بل وحتى محتواها في بعض الأحايين.

العدد 1104 - 24/4/2024