عوالم باسم عبدو القصصية… شاعرية في عبق السرد والزمن

عوض سعود عوض:

لا شك في أن الأديب باسم عبدو يتجاوز ما كتبه في كل مجموعة جديدة، ومثالنا أنه في مجموعة (دائرة الضوء) التي جاءت بعد مجموعة (الصفعة) فيها تجديد في الموضوعات المطروحة التي تحمل الهم الإنساني والفردي، على عكس مجموعته السابقة (الصفعة) التي تحدثت بعض قصصها عن ماض انتهى عمره، وصار من التاريخ كالبيك والحياة الإقطاعية ومعاناة الفلاحين وغير ذلك.

ومن خلال اطلاعي على إصدارات الزميل الصديق باسم عبدو، أرى أنه استطاع أن يخط لنفسه أسلوباً خاصاً في كتابة القصة يعتمد على موضوعات جديدة.

 

العنوان

العنوان أهم عتبة من عتبات النص، وهو يعطي الصورة الأولى للقارئ، وعناوين مجموعات باسم عبدو بحاجة إلى دراسة، مثلاً عنوان مجموعة (لا يموت الأقحوان) نعرف أن الموت هو نهاية الحياة إن كان للإنسان أو للنبات، أما الإصرار على عدم الموت، فهذا يعني تجدد الحياة واستمرارها. مر معنا في الحضارات القديمة كيف أن أدونيس في الأساطير الكنعانية وغيرها اختفوا ثم عادوا ثانية مع الربيع، وهذا حال الأقحوان الذي يعود إلى الحياة والنماء مع السرب بعد خصب الأمطار التي تجذره، من هنا يتبين لنا أن للعنوان أكثر من دلالة، وعلى القارئ والناقد استخلاص ذلك، ولهذا أقول إنه عنوان إشكالي مراوغ، لأنه لم يرد في قصص المجموعة وهو على علاقة بالإنسان والطبيعة.

أما عنوان مجموعات (اعترافات) فهو يعطينا بوصلة لنبحث في النصوص عن الاعتراف، فنجد قصة بعنوان (اعترافات عائشة)، فمن الأمور التي تعرضت لها قصصها كيف أن الأحزاب تقول شيئاً وتفعل شيئاً آخر، ومثل هذه الاعترافات بشكل غير مباشر نجدها في قصة (ذكريات مقبرة الغستابو) التي يصف فيها الكاتب حال السجين في معتقلات الاحتلال الصهيوني وذكرياته وأسرته ومعاملة العدو، حيث ينقطع عن العالم، ولهذا عندما تدخل ذبابة إلى الزنزانة، يعتبر ذلك حدثاً هاماً، وهناك اعترافات أخرى كما في حب وعشق الغجرية المنكوبة في قصة (هواجس تغرق في بحر قلبها)، كما نرى قبل ذلك في الغيرة التي تقتل الحب في قصة (كاترو).

وزيادة في ذلك أقول إن عنوان رواية (احتراق الضباب) الذي يعد إشكالياً، لماذا يحترق الضباب؟! وهل فعلاً يحترق؟ وإذا احترق أو انجلى ماذا يظهر؟ فإذا عدنا لموضوعات الرواية: الحقائق الخامس من حزيران كبداية وأيلول الأسود كنهاية. في الأولى هزيمة الأنظمة العربية أمام العدو الصهيوني، والثانية هزيمة المقاومة الفلسطينية، كما عرج على مزيد من الضباب الذي لف مرحلة الوحدة واعتقال الشيوعيين.

 

اللغة

من أهم ما تميزت به قصص باسم عبدو اللغة الشاعرية التي لها غير مهمة، فهي من جهة تفيض جمالية نثرية إضافة إلى كونها تثير جوانب هامة من الحدث والشخصية. وإذا شئنا التعرف على مفرداته ولغته القصصة المميزة سنجدها في كل قصة.

القصة لديه تشكيل لغوي، يبدأ به أحياناً القصة ليفتتح أمام القارئ عوالم من الفرح، عوامل الجمال تأسره هذه اللغة، والقارئ حائر بين الكلمات والجمل وروعتها، وبين الحدث الذي يتشكل لمتابعته، الأمثلة التالية من قصة اعترافات:

* انتظرت بزوغ الشمس بفارغ الصبر، ولم أعط فرحتي للقمر، سرقت همسات الفجر في أول ضوء، تباطأت خطواته نحوي، لكنه فقد الأمل وهجم علي)، من قصة (اعترافات عائشة ص 5).

ومن قصة (هواجس تغرق في بحر حبها): (تدس تفاح خديها إلى صدري، تتمرغ شفتاي برائحة عرق نهديها، أرتمي على مصطبة عينيها جثة تحترق بدموعها في ذلك الصباح، وفي كل الصباحات، تركع أحلامي أمامها بخشوع، تربكني ثرثراتها الناعمة، تنمو بين صمتها ودفئها أعشاب في القلب، وقبل أن أصل إلى عتبة الخجل، أقلع من قدمي كل الأعشاب، أدخل عارياً إلا من قلب يستره غشاء، وروح تحمل أعداداً يابسة، سرعان ما تبرعم أزهار الرمان) ص 45.

إن الاستخدام الجيد للغة هو إحدى مميزات القصة الحداثية، وهذا ما نجده كذلك في قصص (لا يموت الأقحوان)، لاحظت أن قصص هذه المجموعة نوعان: قصص اعتمدت على الحدث وتناميه، وقصص أخرى اعتمدت على اللغة بدلاً عن الحدث، فكانت أقرب إلى النص الشاعري، لأن اللغة لدى باسم هي التي تنهض بالسرد، وهي واضحة، دعونا نقرأ بعض الجمل والمقاطع التالية:

(ألهبت أعماقي في حرائق النسيان.. كانت أنفاسها تروض برودة الشتاء) ص 56. و(أعطاني رغيفاً مقمراً بالدموع.. كي أغمسه بدمعة وابتسامة، تجتمعان معاً في صحن الحب وتتعانقان) ص 159 و160. و(خوفاً من اندلاق النصائح…. والاكتفاء بدس بقايا حنين بين فتحات أزرار قميصها) ص 71.

هذه اللغة الرشيقة تضفي على القصص شيئاً من النداوة والعذوبة، وتمنح القارئ فسحة من التأمل.

 

الزمن

الزمن هو مسافة الحركة والمعبر عن الحدث، كيف وأين ومتى ولماذا وقع؟ والدوافع والنتائج، وهو خلق إنساني فني مع الحدث، أو أن الحدث يخلقه، مرتبط بالمكان والشخصيات، وهو يأخذ بعده ليس بواقعيته، بل بتخيله، فنحن ندرك الزمن ونتخيله ونحس به، يتماهى مع النص، يظهر حسب الوقائع، وهو في القصة مكثف.

في مجموعة قصص (اعترافات) يتلاعب القاص بالزمن تقديماً وتأخيراً، والتداخل ما في ذكريات، وتذكر عائشة في قصة (اعترافات عائشة) فها هي ذي تفتح باب ذاكرتها وصية أمها، فتسترجع حياتها مع أبي صبيح عبر بعض الاعترافات والشهادات، حتى إن القصة ذاتها قائمة على ذلك، ومثل هذا التذكر نراه في قصة (ذكريات تتكرر كل يوم) المبنية على التداخل والمنولوج، لا يقطع حبل الماضي سوى تدخل الجنود كما في (صحوت من إغفاءتي على كتف صخرة تستلقي في وادي الذاكرة، عندما دفعني أحد الجنود بفوهة البندقية، نهض رأسي المنحني، تفجرت أقوال أمي ونصائحها، عادت إليّ حارة وطازجة) ص ،74 وهذا أيضاً حال قصة (ذكريات مقبرة الغستابو)، فمن عنوانها واضح أنها قائمة على استعارة الأحداث والوقائع.

القاص في الغالب لا يتبع التسلسل الزمني في تقديم أحداث قصصه، فلو أخذنا على سبيل المثال قصة (اعترافات عائشة) نجد أنه قد بعثر الزمن تسلسلها في القصة هي: الاعتراف الأخير، الاعتراف ما قبل الأخير، الاعتراف الأول، الشهادة الأولى، الشهادة الثانية، الاعتراف الثاني، الشهادة الثالثة.

لجأ القاص إلى تقسيم بعض القصص إلى عدد من العناوين أو المقاطع الفرعية كما ذكرت آنفاً، وكذلك في التقسيم الوارد في قصة (نطفة من حجر) المقسمة إلى ثمانية مقاطع، وفي قصة (كاترو) المقسمة إلى مشهدين وثلاث صور.

أما مجموعة قصص (لا يموت الأقحوان) فمعظم قصصها اعتمدت على قصر المسافات الزمنية والتقطيع، وعدم البدء في العديد منها من بداية الحدث، فقد حدث التقديم والتأخير في الزمن، والتلاعب به، إلا أننا نلاحظ الزمن الممطوط من غير قصة، كما في قصة (دفاتر الصباح) حيث تجري العودة إلى ما قبل خمسة وعشرين عاماً. وقصة (فردة حذاء) زمنها ممتد من نظام الحكم السابق في العراق حتى سقوطه، والبحث في المقابر الجماعية.

القاص باسم عبدو كان أميناً لمبادئه، فقد لامس هموم الفقراء والشرائح الاجتماعية التي في القاع، كالحديث الذي ساقه عن رائحة الطعام التي تختلف حسب وضع الأسرة الاقتصادي، في قصة (تلك الرائحة)، وحلم الرجل الفقير الذي يحلم أن يدفن في قبر الأغا، في قصة (الهبوب)، ولا ينسى رغيف الخبز الذي هو قوت الفقراء، فيذكر الرغيف الطازج الخارج من التنور صفحة 168 من مجموعة (لا يموت الأقحوان)، والرغيف المقمر بالدموع صفحة ،159 ورائحة الخبز والدم والشهداء صفحة 169.

أما عن المرأة وجمالها فإن القاص يعتبر أن الغمازة علامة من علامات الجمال، لهذا استخدمها بكثرة في الصفحات 113 و159 و170.

(لا يموت الأقحوان) قصصها اقتربت من القصة الحداثية، لاعتمادها على اللغة، وعلى قصر المسافة الزمنية، والتقطيع، وعدم البدء في العديد من القصص من بداية الحدث، حيث تم التلاعب بالزمن، والاستفادة من أساليب عدة كالرمز والاستعانة بالتراث والأسطورة في غير قصة، وعلى هذا فإن قصصها مشغولة بفنية، وهذا يعود إلى قدرة القاص باسم عبدو.

أما قصص (اعترافات) فوجدت أن بعض قصصها تميزت بنهاية تحمل مفاجأة من نوع ما، ومثالنا هنا نهاية قصة (نطفة من حجر) التي جاءت كالتالي: (الجنود في حالة تأهب واستنفار تام، ينتظرون خروج المرأة من المشفى لتنفيذ أمر اعتقالها، لأنها أنجبت حجراً، لكنهم أصيبوا بالدهشة والرعب، عندما خرج الحجر من القماط، وصعق رأس جندي إسرائيلي، وأرداه قتيلاً. ص 44.

أخيراً قصص (اعترافات) للقاص والروائي باسم عبدو، تعتبر علامة مضيئة في مسيرته الإبداعية، لأنها حققت مجمل شروط القصة الحداثية وفنّيّتها.

 

(*) لا يموت الأقحوان، قصص قصيرة، تأليف باسم عبدو، إصدار اتحاد الكتاب العرب عام 2008. يقع الكتاب في 204 صفحات من القطع الوسط، تضمن ثلاثاً وثلاثين قصة تتفاوت في الطول، وقد سبق أن أصدر خمس مجموعات قصصية وأربع روايات.

(**) اعترافات، قصص قصيرة، تأليف باسم عبدو، طباعة دار بعل للنشر والتوزيع، تقع في 108 صفحات من القطع المتوسط، في خمس عشرة قصة، إصدار عام 2006.

العدد 1104 - 24/4/2024