التّأهيل الاقتصاديّ

ريم الحسين:

في إحدى المحاضرات الاقتصاديّة أيّام الجامعة، قبل ثورة الإرهاب، وكان الحديث المتداول يومذاك لدى المطّلعين، عن (اقتصاد السّوق الاجتماعيّ) الّذي كان يُقدَّم على أنّه الرّؤية الأكثر قرباً من أصحاب القرار لمستقبل سورية الاقتصاديّ. قال الدّكتور المحاضر إنّه (ليبراليّ) وغير مقتنع بفكرة اقتصاد السّوق الاجتماعيّ بالطّريقة الّتي ينفّذ بها على الأرض ضمن اقتصادنا، فقاطعه أحد الطّلاب بأنّه يكره أمريكا والدّول الرأسماليّة وغير مقتنع بأيّ نظام اقتصاديّ مبنيّ على أفكار أمريكا ومفكريها! وأنّه يرى بأنّ الاشتراكيّة هي الحلّ الأفضل كما كنّا، فقاطعه أحد الطّلاب وقال له: تريد نظاماً شيوعيّاً كافراً؟!!

 وهنا قاطع المحاضر الأصوات الّتي بدأت تعلو عن رغبات الطّلاب لمستقبل البلد وفوجئ بأنّ طلاب اقتصاد غير مدركين تماماً لمعاني المصطلحات وللمدارس الاقتصاديّة، وأنّها غوغاء لطرح أفكار لمجرد أن يتبيّن صاحبها أنّه مثقّف اقتصاديّاً أو يشارك في النّقاش، وكان المرعب بالنّسبة له أنّ أغلب الطّلاب لا يميّزون بين الرّأسماليّة واللّيبراليّة والاشتراكيّة والشيوعيّة وغيرها من المصطلحات، وكان اللافت أيضاً كلمة (كافر) أكثر من أيّ حديث طغى، فلو كان هناك إدراك مبكّر لعقليّة البعض لما دُهشنا من حملة التّكفير الّتي قادها الغزاة وأدواتهم التّكفيرية، ولما شهدنا عصر أقذر عدوّ عرفته البشريّة! فإذا كان طرحٌ اقتصاديّ تخلّله كلمة كافر، فكيف لو كان اجتماعيّاً وسياسيّاً!

من هذه الحادثة القصيرة الّتي سردتها باختصار شديد والّتي تكرّرت آلاف المرّات في كلّ مكان ندرك عدة أمور، من النّظام التعليميّ الفاشل نوعاً ما، إلى الأفكار المجتمعيّة الّتي تربط حتّى الاقتصاد بالكفر والإيمان، إلى انسياق النّاس نحو مقاومة التّغيير دون إدراك حتّى لو فشلت التّجارب المطبّقة، بغضّ النّظر عن أسباب الفشل، والأهمّ هو الجهل المطبق بربط كلّ شيء لدينا بمواقفنا السياسيّة أو الدّينيّة. يعني إذا اخترعت أمريكا أجهزة الاتصال الحديث فهذا يعني أن لا نستخدمها، وإلّا فنحن لدينا انفصام واضح نأخذ ما نريد ونلغي ما نريد بحجّة العداء لسياسة بلد إرهابيّ، بغضّ النّظر عن الرّأسمالية كفكر اقتصاديّ سيئ أو جيد، وكلمة شيوعيّ تعني عند البعض: ملحد، وكلّ الإرث الفلسفيّ والاقتصاديّ لماركس وأنجلز ومن جاء بعدهما لخّصه هؤلاء بالإلحاد!!

  عقول تحتاج إلى إعادة ترميم وتركيب وجمع لتلافيفها منذ البداية، فإذا كان طلاب اقتصاد لا يميّزون بين المدارس الفكريّة الاقتصاديّة، وأنّها ليست وليدة دولة فقط وإنّما مخضرمون اقتصاديون يبحثون عن الحلول المثلى، وإذا تبنّت نهجه وفكره هذه الدّول فلا يعني أنّه حكر عليها وتلبّس بها، وأنّها قد تغيّر نظامها مع كلّ موجة تطوّر وحداثة، فكيف بعامّة الشّعب غير المطّلع على ماهيّة الأفكار الاقتصاديّة وجلّ همه تأمين قوت يومه وأن يعيش بكرامة ول ايهمّه التسميات ولا طريقة إدارة الاقتصاد وإنّما أثرها على واقعه وحياته.

 طبعاً ازدواجيّة المعايير ليست وليدة اليوم، فكلّ احتلال أتى معه بأنظمة وقوانين بعضها فُرض وبعضها عدّل اجتماعيّاً ليتناسب مع أسلوب الهيمنة، وبعدها بدأت رحلة الدّولة في إيجاد نظام اقتصاديّ مناسب مُستقى من الثّورات الاقتصاديّة والتحرريّة في العالم، ولكن بسبب ربطه سياسيّاً أولاً وعدم القدرة على إدارة هذا الفكر بشكل جيّد ثانياً، لاحت آثار الفشل الذّريع. فعندما تقرأ عن الاشتراكيّة مثلاً فسرعان ما تلمع عيناك وعندما ترى تطبيقها على الأرض تزدريها، فالمشكلة ليست في الاشتراكيّة، المشكلة في المسؤول عن تطبيقها، لهذا مهما كان النّظام الاقتصاديّ المتّبع سواء اقتصاد السّوق الحرّ أم اشتراكيّ أم غيره فلن نعلم جدواه على اقتصادنا إن لم يكن هناك أشخاص ذوو كفاءة وعلم ومختصون وباحثون همّهم رفعّة وطنهم ونهوضه.

يبدو أنّنا بحاجة إلى نظام تعليميّ بنّاء لا يعتمد فقط على الحشو والحفظ والبصم، ذلك أنّ همّ الطّالب الوحيد يصبح هو النّجاح دون فهم في أغلب الأحيان، وترى أغلب خريجينا في جميع الجامعات والاختصاصات لم يحصلوا على نسبة كافية من العلم والمعرفة، ينقصنا التّطبيق العمليّ والحوارات والنّقاشات البنّاءة وشرح مبسّط للأفكار حتّى يتمكّن هؤلاء لاحقاً من الإبداع وممارسة ما تعلّموه على أرض الواقع، ما الضّير من أن يرى فكر اقتصاديّ سوريّ المنشأ النّور بعد هذه الحرب بحيث يكون أمثولة لنجاح دولتنا في تجاوز المحن الاقتصاديّة الّتي أفرزتها الحرب ونتخلّص نهائياً من فكرة أنّه مهما كان النّظام الاقتصاديّ المطبّق لدينا سيثبت فشله نتيجة الفساد وسوء الإدارة والتخطيط؟

لن نقود هذه البلاد للازدهار ونساهم في تحريرها من زواريب الأفكار الاجتماعيّة والاقتصاديّة البائدة دون تأهيل الشّباب بالدّرجة الأولى، ودون تطبيق للخطط والنّهج المتبّع مهما كان، بشكل صحيح وفعّال، والاستعانة دون واسطة بالخبراء الحقيقيين المتصفيّن بالنّزاهة والحرص، أيّ أنّ التأهيل الاقتصاديّ يبدأ بتأهيل الكوادر ومن ثمّ التّجربة برهان.

المجد للشّهداء، حماة الدّيار عليكم سلام.

العدد 1104 - 24/4/2024