السقوط المجنـح!

سامر منصور:

لن أنسى ذلك اليوم الذي كنت فيه في محاضرة لعالِمٍ عربي يعيش في المهجر، حين عقّب أحد الحضور في ختام محاضرة أتخمتنا بتمجيد العلم الذي جناه الغرب المجتهد والخلاّق، قائلاً: (لكن هذا الغرب بكل تقدمه مادي لا أخلاقي ولا إنساني).  وقد عقّب الدكتور المحاضر قائلاً: (لقد عشت حياتي هنا وهناك، وصدّقني لم أسمع في الغرب المادي مقولات مثل: (بجيبك قرش بتسوا قرش، أو إلك معنا وما معنا وبس يصير معنا الله لا يجمعنا، أو يلي بتعرف ديتو اقتلو، أو إذا عندك حاجة عند الكلب قلّو: ياسيدي، أو الإيد يلي ما بتقدر تقطعها بوسها)!

ولن أُضيف ما في جعبتي من أمثال يتداولها العرب ويتناصحون بها، بل سأكتفي بمتابعة ما قاله الدكتور المحاضر: (وبعد كل هذا تقول لي الغرب مادي ولا أخلاقي، ونحن نفوقه خلقاً إن فاقنا تقدماً!؟).

إن الحكومات الغربية لا تجرؤ على ممارسة الظلم بشكل ظواهر متكررة، بل هي تمارس ازدواجية بين مواطنيها ومواطني الشعوب والأمم المُعاقة بأنظمتها الحاكمة، وبالتالي المُتخلفة، حيث تحترم الدول المتقدمة الإنسان على أراضيها وتمارس الإرهاب الوحشي ضدّ أبناء البشرية ممّن يعيقون مطامعها ومشاريعها في شكلٍ حديث من أشكال العنصرية لا يستند إلى لون أو عرق أو جنس …الخ. مجتمعاتنا العربية، التي تمّ تجهيلها على يد الاحتلال العثماني وتجويعها عبر ترحيل ثروات وخيرات الكثير من مدنها إلى المدن التركية، مازالت تتوارث الخوف من الفقر خاصّة، في ظلّ أنظمة حكم عقبت الاستقلال لا تختلف قياداتها عن قادة الاحتلال من حيث جشعهم ونهبهم لثروات البلاد، وتلعب الأسرة دوراً في تكريس مفهوم أن المال هو السند والعزوة، وهو فعلاً كذلك في الدول العاجزة عن إقامة العدالة الاجتماعية وإتاحة تكافؤ الفرص والتخلّص من عوالق الذهنية العشائرية من حيث المحسوبيات والوساطة التي تحول دون وصول الكفاءات إلى مكانها المستحق. باختصار، إن انحياز سلطات الدولة عبر الفساد والرقابة الرخوة إلى الثريّ يؤسس ويكرّس لمجتمع مادي أقرب ما يكون إلى تجمّع بشري منه إلى مجتمع حقيقي وفق المفاهيم الحديثة للمجتمع. وتلعب الثقافة الاستهلاكية والغزو الثقافي الغربي وتراجع الحراك التنويري التوعوي الناتج عن هجرة العقول، وتنامي الأدلجة والتنميط والكورالية في الخطاب الثقافي والإعلامي، كل هذا يلعب دوراً خطيراً في إعلاء قيمة المال وتسليع الإنسان.

إن تطور خيال الإنسان وإنجازه الفني والعلمي مرتبط إلى حدٍّ بالغ بتحرره من الفوبيا والعصاب وما شابه. نحن إلى الآن لم نستثمر في الإنسان، في بناء الإنسان، بل نطوف تمجيداً حول العروش ونستثمر في التطبيل والشعارات لأحزاب عربية انحدرت من العطاء والتحديث إلى الفساد والنفاق والبيرقراطية. والفاسد الكبير ينشر ثقافة الفساد كي يواري سوءته، وليس أقبح وأخطر من إنسان يؤمن ويستكين لفكرة أن كرامته وحقوقه ومكانته تُصان بماله.

العدد 1104 - 24/4/2024