في عيد المرأة العالميّ.. دعوةٌ لاستئصال مصطلحات الظّلم الاجتماعيّ

ريم الحسين:
تتحفنا كلّ مرّة استطلاعات أو دراسات أو تصريحات تتحدّث عن نسب (العنوسة) في البلدان وخصوصاً العربيّة منها، وبغضّ النّظر عن دقة هذه المشكلة، فإنها تكمن في هذا المصطلح تحديداً وآليّة تحديده في مجتمعات ينتشر فيها الزواج المبكّر والمصطلحات المحرّفة على وجه الخصوص، للإكمال على دونية النّظرة إلى المرأة فيها، وكأنّ العزوف عن الزواج أو عدم القدرة عليه أو عدم بلوغه، مهما تعدّدت الأسباب، هو جريمة بحقّ الإناث دون الذّكور، وهذه الحالة أصبحت أغلبها عن إرادة حرّة وليست كما يُروّج بأنّ المشكلة في الفتيات!

لماذا لا توجد إحصائيات تحدّد معدّل الذّكور العازفين عن الزّواج؟
ثمّ كيف يمكن تحديد سنّ مصطلحهم (العنوسة)؟ وعلى أيّ أساس يتمّ التّصنيف؟ هل هو تجاوز سنّ معينة أم النّظرة المجتمعية؟
وهنا الكارثة في مجتمع مازال يغتصب القاصرات.
إذاً، فلتكن العانس مثلاً هي الّتي تجاوزت سنّ (الخصوبة) على الأقلّ، حينئذٍ يمكن جعله مصطلحاً مبنيّاً على أسس علميّة.

في البداية مصطلح (عنوسة) إذا راجعنا مادة عَنسَ في (لسان العرب) فإننا سرعان ما نتبيّن أنّها تُطلق على الرجل والمرأة، فـ(العانِس من الرّجال والنّساء اّلذي يبقى زماناً بعد أن يُدْرِك لا يتزوج) ، (ورجل عانِس، والجمع العانِسُون).
وهذا يدل على أنّ اللغة العربية لم تتحيّز لجنسٍ على حساب آخر، ولكنّ الاستعمال اللّغوي رسّخ خلاف الأصل اللّغوي، فاستقرّ في الأذهان أنّ العنوسة تخصّ النّساء فهي عيب طارئ عليهنّ، يُخرجهنّ من الحالة الطّبيعية والسّوية.
ولم يغفل اللّغويون هذا الاستعمال فقالوا: (العانس أكثر ما يُستعمل في النّساء)، فعبّروا بذلك عن قيم المجتمع الذّكوري ومصالحه كما جرت العادة حيث يُنظر للمصطلحات على أسس تمييز جندريّة واضحة. والعانس وإن وظّف في أكثر اللّغة للدلالة على الأنثى الّتي لم تتزوج، فإنّه كذلك قد يطلق على الرّجل الّذي لم يتزوج، ويبدو جليّاً في الشّعر العربيّ القديم، ومن ذلك قول الشّاعر أبي ذؤيب الهذليّ:
أَلا لَيتَ شِعري هَل تَنظَّرَ خالِدٌ عيادي على الهِجرانِ أَم هُوَ يائِسُ
فَإِنّي عَلى ما كُنتَ تَعهَدُ بَينَنا وَليدَينِ حَتّى أَنتَ أَشمَطُ عانِسُ

ونجد من التّداخلات الاجتماعيّة الظّالمة حتّى كلمة عنوسة تُقال بطريقة وكأنّها تهمة أو جريمة، وإذا أراد أحدهم وصف أنثى بطريقة غير لائقة قال إنّها (عانس) أي معقّدة ومريضة نفسيّاً رغم أنّ الاحصائيات نفسها تجد الأشخاص غير المرتبطين أكثر سعادة وأقلّ هموماً نفسيّة من المرتبطين! وأغلب الفتيات الّلاتي لم يتزوجن عُقدتهنّ هي مجتمعهنّ ونظرته وليس موضوع الزّواج بحدّ ذاته! من أين يأتي هؤلاء بتصنيفاتهم وقدرتهم على تلفيق وتزوير المصطلحات واللّعب عليها؟

ثم يأتيك من يُشرّع تدمير الأسرة بالدّعوة إلى زواج آخر لحلّ مشكلة العنوسة! إذا كان الزّوجين غير قادرين على بناء أسرة واحدة، تريدون يا أعداء الإنسانيّة ومنافقي الأديان إثقال كاهلهم بأسرتين!
وإذا كان الأمر هكذا فلماذا لا تدعون، يا أصحاب التّقوى والعمل الصّالح، كلّ إنسان مقتدر أن يساعد شاباً غير مقتدر على الزواج فتنقذون اثنين من خطر (العنوسة)!!
وهل تفتيت المجتمعات له علاقة بالزواج! أغلب المجتمعات المتحضّرة والدّول المتقدّمة ذات الرّفاهية المطلقة لمواطنيها تعتبر الزواج من عدمه مسألة شخصيّة لا تؤثّر على سير الحياة، ومن ثمّ ماذا عن الشّباب العازف عن الزواج؟ وهناك حالات كثيرة لشباب قادرين لكنّهم لا يريدون الارتباط، متى يفهم هؤلاء أنّ هذه الأمور شخصيّة لا يحقّ لأيٍّ كان أن يُنّصب نفسه قاضياً وحاكماً وحلّالاً لمشاكل المجتمع، كما يرونه بنظرتهم، أنّها مشاكل.

ثمّ يأتيك الأذكى فيقول في الدّين يجب التّأكد من قدرة الزوج على إعالة الأسرة الثّانية، إذا أراد الزواج مرّة أخرى، أمّا في حالة الحرب فلا يوجد تدقيق!! أي خراب عائلتين بدل عائلة واحدة! هذا هو الخراب وتفتيت المجتمعات الحقيقيّ يا سادة وليس ما تدّعون، والأهمّ هل خطر لكم أن تطلبوا استفتاءً مثلاً لمعرفة المنزعج من عزوبيته وعن حلوله المقترحة؟ أم كالعادة صاحب الشّأن آخر من يعلم وآخر من يحقّ له إبداء رأيه في دول تحتاج إلى آلاف السّنين الضوئيّة لاحترام حريّة الرّأي؟

السّبب في عزوف الشّباب عن الزواج أغلبه ماديّ، وهذا أصبح بديهيّاً، إذاً فلتدعم الدّولة هؤلاء الشّباب بمشاريع السّكن الشّبابي والعمل والدّخل الجيّد، أليس هذا أولى من طرح أفكار متطرّفة متخلّفة؟ أليس من الأجدى لهؤلاء أن يوظّفوا الأموال الّتي تأتيهم إلى بيت مالهم في حل قضايا الشّباب إن كانوا يرون أن هناك مشكلة حقيقيّة، بدل التّصريحات غير المسؤولة؟!

أمّا الفتيات فتوضّح أنّ السّبب الحقيقيّ وراء عزوبيتهنّ هو الاستقلاليّة الّتي حصلت عليها الإناث وخصوصاً الماديّة والتّطور الفكريّ الّذي لم يعد يعني لأغلب الفتيات أن تعيش في جحيم مع رجل لمجرد أن يُقال عنها غير عانس، يعني أن تكون متزوجة في حياة مؤلمة ومشاكل وعدم تفاهم أفضل! هذا يعني تشجيع الطّلاق! إضافة إلى عزوف الشّباب عن الزواج نتيجة التحاق أغلبهم في صفوف الجيش والقوات الرّديفة وهجرة آخرين أو عدم كفايتهم الماديّة لإنشاء أسرة، وبالتّالي عدم وجود فرص متكافئة لكلا الطّرفين.

متى تدرك مجتمعاتنا خصوصيّة الأفراد وحريّتهم إن كان الرّأي معتقلاً، حتّى في الأمور الشّخصية تريدون اعتقالها وتأطيرها بإيديولوجيا قبليّة ودينيّة.

تتطوّر المجتمعات ونحن تأتينا الحروب ويأتينا المنظّرون الجالسون في رفاهيتهم ليعيدونا آلاف الأعوام إلى الوراء، وللتّذكير يا سادة، الحرب في وطننا ولو كانت حرباً صهيونيّة لا يخفى على أحد أنّها اتخذت الدّين كأداة والتّطرف ومرتزقته كوسيلة ثمّ يأتينا هؤلاء أنفسهم بأشكال أخرى على هيئة (اعتدال).

الزواج حريّة شخصيّة ولا يحقّ لأحد أن يتدّخل في شؤون غيره، فلنوجِد قوانين تجرّم الإساءة للأشخاص فهذا أفضل.
الزواج مؤسّسة قائمة على التّفاهم والمودة وليس لإنجاب أطفال إلى هذا العالم وجعلهم فريسة للمعاناة، فكما تبيّن في الحروب يكثر اللّقطاء ويكثر من يرمون أولادهم بذريعة الفقر، وآخرهم الطّفلة التي عثر عليها أمام جامع الثقفيّ في القصاع، وعندما تمّ التّعرف على ما يدعى والدها أفاد أنّ الفقر هو السّبب. يعني حلّ مشاكلكم مع عدم زواج الإناث بمشاكل أكبر (خلِّف وكبّ) هذا عدا الأطفال المرميين في الشّوارع للتسوّل والبيع وأعمال لقتل الطّفولة والإنسانيّة.

ترتقي المجتمعات بتغيير النّظرات السّلبية وعدم تحريف المصطلحات إلى معانٍ أخرى غير لائقة ومجحفة ومؤذية.
العنوسة هي العزوف عن الزواج لكلا الجنسين ويُفضّل استخدام مصطلح (عازب)، وهي لا تشكل مشكلة نفسيّة بقدر ما هي اجتماعيّة، فليجرّم كل من يطلق مصطلحاً في غير محله ولتسعَ الدّولة مع الجهات المعنيّة لتوفير مستوى معيشة لائق يحترم الأسرة والاطلاع على الأسباب المؤدية لرغبة الفرد في البقاء عازباً وعدم التّدخل في شؤونه الشخصيّة، والأهمّ السّعي لإقرار القوانين المدنيّة، وعندئذٍ حجّة (المهر) تتلاشى ،ومحاولة إيجاد تغيير جذريّ في نظرة البعض للزواج من عبء فقط لدفع المال إلى شركة إنسانيّة لتحقيق أهداف أسمى، فإذا كانت الإناث تتطلّب فهذا نتيجة للعقلية المزروعة من أهاليهنّ ومجتمعهنّ بأنهنّ سلع للمتاجرة، وكثيرات تجاوزن هذه المرحلة يتزوجن دون ضجيج ويساعدن أزواجهنّ في كل أعباء الحياة ويرفضن المظاهر والتّكاليف حتّى أنّ الرّجل نفسه يبحث عن زوجة موظّفة تقاسمه أوجاع الحياة والوضع المعيشيّ المترديّ.

لننظر إلى الأمور عن طريق تثقيف الأفراد سواء بالإعلام أو الجهات المعنيّة، ومحاولة تقدير الحريّة الشخصيّة، إضافة إلى توفير أدنى متطلّبات العيش الكريم. ربما سيقول البعض إنّنا ندعو لمدينة فاضلة مستحيلة، لكنّ ماتمّ ذكره هو أقلّ حقوقك كإنسان وأقلّ ما يتطلّبه شعور المواطنة والانتماء.

سورية تستحقّ الأفضل بعد كلّ الدّماء الّتي سالت، تستحقّ النّهضة والحداثة لتلافي الشّرخ الاجتماعيّ الّذي حدث، فالأسرة هي الخليّة واللّبنة الأولى وما تأسيسها على باطل إلّا دعوة للتّهاوي، الأسس الصّحيحة للأسر الجديدة وترميم القديمة هي الدّعوة الّتي يجب أن يتبنّاها الجميع بكلّ أطيافهم ومكانتهم، الوعي المجتمعيّ هو سبيل الخلاص من آثار الحروب وهو السّلاح الأقوى لتجنّبها.

في عيدكنّ لستنّ حدثاً طارئاً على الحياة، أنتنّ كلّ الحياة،
(( يقول البعض إنّ المرأة هي للنّوم مع ليالي الشّتاء الطّويلة…
يقول البعض إنّ المرأة للّعب مثل راقصة مثيرة على أرضيّة حصاد خضراء..
يقول البعض إنّها زوجتي..
يقول البعض إنّها هي الدّين الرّوحي الّذي أحمل حول عنقي..
يقول البعض إنّها الشخص الّذي يعطي أولادي الميلاد..
إنّها لا هذا ولا ذاك، وليست راقصة مثيرة، وليست الزوجة، وليست الدين، لا شيء من ذلك!
(هي ذراعي وساقي ورأسي
أمي، زوجتي، أختي، عاشقتي المقرّبة
هي حضن صديقتي مدى الحياة)*.
*ناظم حكمت.

المجد للشّهداء، حماة الدّيار عليكم سلام.

العدد 1105 - 01/5/2024