الجامعات السورية ودراسة الفلسفة

يونس صالح:

الفلسفة هي أرقى أشكال الفكر الإنساني، وهي من زاوية دعاتها التقليديين أمُّ العلوم، بيد أنها في المفهوم المعاصر تلازم العلم في مسيرتها، تارة تتقدم عليه فيسترشد بخطاها المنهجية وآفاقها المعرفية من خلال الأفكار الكلية التي تطرحها، وتارة أخرى تلهث وراء العلم مستفيدة من معطياته النظرية والعلمية.

وهكذا تتلخص هذه الأصرة بعلاقة حميمية ليس بإمكان إحداهما الاستغناء عن الأخرى، فالعلم يقدم الحلول الأكثر واقعية، بعد تحليل المشكلات الكبرى الراهنة، فيجبر الفلسفة على إعادة ترتيب أولوياتها في ضوء الحقائق الجديدة، وعلى الجهة الثانية فإن الفلسفة تمنح العلم زخماً للتقدم، وتثير لدى دعاته ومريديه القضايا النظرية الكبرى.

في ضوء إدراك هذه العلاقة الجدلية بين كلا النوعين من النشاط الفكري، الفلسفة والعلم، يفترض أن هيئات تدريس مادة الفلسفة في الكليات المتخصصة تمتلك أفقاً واسعاً وصدراً رحباً، يعلو على الهموم الإدارية للتدريس الجامعي، ويتجاوز النطاق المحدود للعقليات التي يقومون بأداء وظائفهم العلمية منها، وإذا عرفنا أن الفلسفة يجب أن تكون في خدمة المجتمع، وليست ترفاً، إذاً لأدركنا جميعاً العجز الذي يعانيه قسم الفلسفة في الجامعة.

إن مرحلة سرد ما هو مثار في الفكر الفلسفي المعاصر وعرض النظريات الفلسفية الكبرى، سواء كانت بابلية أو سومرية أو هندية أو فرعونية أو فارسية أو إغريقية أو مسيحية أو إسلامية تنتمي للقرون القديمة أو الوسطى أو المعاصرة.. إلخ، يؤدي غرضاً أكاديمياً بحتاً، مفاده إطلاع الطلبة على حقول الفلسفة وتاريخها، والعمل على متابعة تطور قضاياها الكبرى، غير أن للأساتذة وظيفة ثابتة تتبلور فيما يلي:

* إعادة النظر في مجمل التراث الفكري والفلسفي العربي الإسلامي، لاستنباط ما هو صالح منه للحياة المعاصرة بكل طموحاتها الفكرية والاقتصادية والاجتماعية والسياسية.

* تقديم سائر النتاج الفلسفي المعاصر، من الشرق أو الغرب أو العالم الثالث، بروح موضوعية نقدية ترمي إلى التشبث بما هو ملائم لنا، أما ما هو غير ذلك فيجري التنويه به بكامل الأمانة العلمية، ولعل اعتماد أي تيار فلسفي على الاتجاه العلمي أو توسّله بالعقل، أداة ومنهجاً واضحاً، كافٍ للنظر إليه بقدر من الاحترام والترحيب.

* وفي النهاية سيكون لدينا زادان: زاد تراثي، وزاد معاصر يربطنا بشخصيتنا الوطنية المعاصرة، تجعلنا نعيش الحاضر ونتجه نحو المستقبل بخطاً محسوبة، والمسألة بعدئذ ليست في إجراء مزاوجة بين التراث الصالح والمعاصرة الملائمة، كما يدعو إلى ذلك جمهرة من الكتاب والمفكرين، باعتبار أنه ليس ثمة تناقض بين الاثنين، فالحل الواجب الاتباع يتمثل في غربلة التراث الفكري مما يعني استخراج ما هو مناسب للحاضر، هذه الحالة لن تثير مشكلة اندماجه بالمعاصرة، ذلك أن الفكر الفلسفي المعاصر يجد جذوره في الفلسفات القديمة، كما أننا لن نعدم أسساً له في الفلسفة الإسلامية (ابن رشد وابن سينا والمعتزلة.. إلخ). أما المعاصر من الفكر الفلسفي فما أكثره، وما أعظم تياراته، ويتعين الإقبال عليه بروح موضوعية نقدية، روح سمحة مرحبة، بما هو سليم منه بمعايير العلم والعقل.

ولا يعني ذلك تشكيل فلسفة تلفيقية أو توفيقية، وإنما تكوين فلسفة إنسانية الشخصية والسمات، علمية المنهج والمضمون.

إن ما حصل في جامعاتنا يتلخص في تبني أبرز أساتذتها ما هو سائد في الفكر الفلسفي المعاصر، إذ نقلوا ما هو سائد في أوربا وأمريكا، وحاولوا تطبيقه بسائر معالمه في مجتمعنا.. وأسارع إلى القول إن تبني الأفكار الفلسفية حق مشروع، عملاً بحرية الفكر، كما أن اعتناق هؤلاء الأساتذة لهذه الفلسفات ليس جريرة يُحاسَبون عليها، والموقف الأكثر صلاحاً كما أراه هو تبني الفلسفات التي تتلاءم مع التنمية في بلادنا، خصوصاً على الصعيد الفكري والثقافي.

إن قسماً من جامعاتنا أخفق في مستوى الأساتذة والطلبة، فلم نسمع يوماً أن أحد الأساتذة أصبح فيلسوفاً، غير أن السمع لم يتعدّ وجود شارحٍ جيد، كما أن الطلبة حينما يتخرجون في الجامعة لا يدركون العالم الرحب للفلسفة، ومنهجها التحليلي وقدرتها الخلاقة على سيادة الفكر الإنساني بأسمى صوره، وهذا ما عجز أساتذة الفلسفة لدينا عن تقديمه، فما أسباب هذا الإخفاق؟

ثمة أسباب جوهرية، إلا أن المراقب يلاحظ أن هناك ثلاثة أسباب، يمكن اعتمادها كعوامل في هذا الإخفاق، وهي:

*  التكوين العلمي الناقص لبعض الأساتذة، وعلى الرغم من أن بعضهم درس في الجامعات الغربية، إلا أنه عاد بخفي حنين فكرياً وإبداعياً، باستثناء الشهادة، ومن جهة أخرى، فإن وجود أساتذة يفتقدون القدرة على الإبداع يثبط همة الذين حازوا على هذه القدرة، مادام الاثنان في المركز العلمي نفسه، وينالان الراتب نفسه، ومادامت إدارة الجامعة أو الكلية تنظر إليهما بنظرة إدارية واحدة، من حيث التمتع بالحقوق الإدارية والمالية نفسها.

* الحصار الفكري: إن الباحث العلمي في بلادنا محاصَر بثلاثة أنواع من السلطات: سلطة التقاليد المتمثلة في المجتمع، وسلطة تراث التاريخ، وسلطة الدولة التي تنظر إلى حقوق المواطن نظرة التحفظ والحذر.. فإذا استطاع أن يفكر تفكيراً رحباً لا قيود تحده إلا قيد الحقيقة العلمية، وهي حقيقة نسبية وليست مطلقة، فإن ترجمة الأفكار الحرة إلى كتابات منشورة مهمة أشبه بمغامرة قد لا يحسب لها حساب، وللأسف إن معظم الأساتذة ليس لديهم طموحات المسافرين في رحاب الفكر الذي أصاب بعضهم، ودفع البعض الآخر حياته ثمناً لما يؤمن به.

* فقدان التفاعل الجدلي بين الأستاذ والطلبة: هذا الاحتكاك الضروري يجعل الأستاذ مقتدراً، والطالب مبدعاً، وتحضرني هنا مقولة لأحد الفلاسفة يقول فيها: (إن حواري مع طلبتي صنع نصف فلسفتي).

ولا شك أن الإخفاق في هذه الناحية كامن في أسلوب التلقين الذي يتلقى الطالب المعلومات والحقائق في ضوئه، إضافة إلى الأعداد الهائلة في كل قاعة في معظم جامعاتنا، الأمر الذي يساعد في تخرج الطالب ومعه (كومة) من المعلومات التي كان بالإمكان استقاؤها من الكتب الخارجية بأقل من نصف مدة الدراسة الجامعية، وينخرط الخريج في وظيفة إدارية، وبعد سنوات من الخدمة العامة ينسى المعلومات التي استقاها في دراسته الجامعية!

فماذا ننتظر بعد كل هذا؟!

العدد 1104 - 24/4/2024