عالم نادين لبكي المليء بالفقراء القذرين والمجرمين
أنس زواهري:
– القاضي: ليش بدّك ترفع دعوى على أهلك؟
زين (مع غصّة كبيرة): لأنُّن خلَّفوني!
هذا الحوار الذي ركّز عليه الإعلان التشويقي للفيلم، قبل دخوله عالم المهرجانات، وهزّ الجميع دون معرفة أحداث ما سيجري لاحقاً في العمل، مما جعله أحد الأفلام المنتظرة. حان وقت مشاهدة الفيلم، وبعد مشاهدة ساعتين من عالم (نادين لبكي) المليء بالفقراء الأشرار والقذرين.
القاضي: وهلّأ شو بدّك من أهلك؟
زين: بدّي ياهون ما بقى يخلّفو!
بالبحث قليلاً على الإنترنت عن معنى اسم (كفرناحوم) وهو عنوان الفيلم الثالث لمخرجته، بعد (كراميل) و(هلأ لوين)، تبيّن أنه اسم القرية التي ألقى فيها يسوع المسيح موعظته المعروفة باسم (عظة الجبل)، لكن من الواضح جلياً بعد مشاهدة الفيلم أنها لم تقصد هذا المنحى في الفيلم، بل العكس تماماً.
زين فتى عمره حوالي 12 سنة، لأنه في الحقيقة لا أحد يعلم عمره بالضبط، من عائلة مكونة من أبٍ سكّير عاطل عن العمل، وأمّ متجهمة قاسية تتاجر بالمخدرات، وستّة أطفال كبيرتهم سحر التي كان زين متعلقاً بها دون أي أخ آخر له. في البداية والغريب في الموضوع وقبل أي تفصيل آخر هو شخصية زين وتركيبتها المدهشة، فهو طفل غير متعلم لا يعرف لا القراءة ولا الكتابة، بعمر صغير جداً يحمل مجموعة صفات لا يمكن أن تجتمع في أحد معاً: (الفصاحة في الكلام، العمق في التفكير، الذكاء، الشهامة، الجرأة، الشجاعة، العناد في المواقف الحازمة، وقدرته العالية على إدانة الظالم ومساعدة المظلوم والتعاطف معه…إلخ). صفات أكبر بكثير من أن يمتلكها شخص في عمر هذا الطفل، ولا توجد إلا في الشخصيات الحالمة في الروايات والأفلام الرومنسية، لكن اتجاه الفيلم لم يكن رومنسياً أو حالماً، بل مغايراً تماماً لهذا المنحى، فقد اتخذ من المدرسة الواقعية التي بدأت في إيطالياً بعد الحرب العالمية الثانية ثيمةً عامة له. وفي العالم المقابل الذي يواجهه زين الذي افترضته نادين، عالم فقط مليء بالأشرار الفقراء ولا أحد غيرهم، فخلال فترة وجيزة ومقتضبة جداً واجه زين جميع أنواع العنف المجتمعي الذي يمكن أن يتخيله أحد، مصيبة وراء مصيبة ومن دون تبرير منطقي: (عنف الأهل، العنف الجنسي، وزواج القاصرات، الاتجار بالمخدرات والبشر، والهجرة غير الشرعية، إضافة إلى القضية السورية…إلخ). قصة الفيلم يمكن اقتضابها بثلاثة أسطر: تُرغَم أخت زين (11سنة) على الزواج قسراً، يغضب زين فيهرب من منزل عائلته ويلتقي امرأة أثيوبية (مهاجرة غير شرعية) لديها طفل ويعيش معهم. تختفي المرأة فيضطر زين للاعتناء بنفسه وبالطفل، ثم يعود إلى منزله لغرضٍ ما، فيكتشف موت أخته فيشتدّ غضباً، فيطعن زوجها وينتهي به الأمر إلى السجن.
من هذه السطور كان يمكن أن يُصنع فيلم حقيقي جداً، لكن فريق العمل قرر استجرار الكثير من القصص الأخرى القاسية غير المبرر لها في الفيلم، وإضافتها فقط من أجل سحب مشاعر المشاهد عنوة، وكل ذلك دون إدانة السبب والمسبب لكل هذه الحقائق، مما جعل من الفقراء وحدهم هم المذنبين. ويمكن حل جميع هذه المشاكل المجتمعية بالتوقف عن الإنجاب حتى ينتهوا شيئاً فشيئاً إلى أن يعم السلام وينعم محدثو النعمة والمجرمون الحقيقيون بالسلام والهدوء. ومن الطرف الآخر لهذا العالم الشرير جرى إظهار محدثي النعمة، بقصد وبنيّة مسبقة، بمظهر المخلصين، بطريقة ساذجة من خلال البرامج التلفزيونية التي ترفّه عنهم بعرض مشاكل الفقراء دون إصلاح واضح لمشاكلهم، وإظهار جانبهم الجيد في ممارسة أعمالهم وإدارة وظائفهم بشكل حازم ولطيف وبنية حسنة: (القاضي، المحامي، أجهزة الأمن، والمنظمات الخيرية).
ليس مستغرباً وصول هذا الفيلم إلى الأوسكار، لأن سياسة عمل الأوسكار باتت واضحة في الآونة الأخيرة كما هو معروف للجميع، فليس من المهم أن يكون الفيلم مصنوعاً بطريقة جيدة ومُحكَمة، بل على العكس فكلما كان يحتوي على الكثير من القضايا المجتمعية المثارة إعلامياً حالياً، باتت حظوظه في نيل الجوائز أقوى.