رب أسرة مستبد = مجتمع متخلف

سامر منصور: 

(الأسرة نواة المجتمع) تعبير نسمعه كثيراً، فما هي المُتغيّرات التي طرأت على علاقة الآباء بالأبناء، بفعل رفع الحظر في سورية عن أجهزة استقبال الفضائيات والهواتف الجوالة وسائر وسائل التكنولوجيا التي أتاحت التواصل الاجتماعي والانفتاح على العالم بما فيه من دول حضارية ورائدة؟ وما هي المُتغيّرات في العلاقات الأسرية التي فرضتها الحرب على سورية؟

قبل عقود مضت كانت تغلب على الكثير من الأُسر السورية علاقة غير سوية بين الآباء والأبناء، حيث يُمنع تحدّث الشبّان في مجالس الكبار، والتحية بينهما تكون بتقبيل اليد كنوع من إظهار الطاعة والخضوع والإجلال، وكان الآباء يفرضون آراءهم ورؤاهم على الأبناء، فكان صاحب الأرض الكبيرة في الأرياف يُنجب الكثير من الأبناء كيد عاملة أكثر وفاء له من اليد العاملة الغريبة، وكان القبليون يُكثرون من الأبناء ليُحصّلوا المكانة والعزوة والهيبة.. وكان تدخل الآباء في تحديد مستقبل الأبناء واختيار الزوج رائجاً.. كما كان الحرفيون والمهنيون يلجؤون للضرب والعنف ضدّ أطفالهم حتى يتقنوا المهنة، فكثيراً ما نسمع حِرَفياً يقول عن تفصيل من تفاصيل مهنته: (والله هي أكلت عليها كفّين لتعلّمتها). باختصار، كثيراً ما كان الأبناء يمشون في ظلّ آبائهم حتى يصبحوا آباء بأنفسهم.

واليوم تشهد الحياة الأسرية السورية في معظمها شيئاً من الديمقراطية والتشاور عوضاً عن احتكار ربّ الأسرة لجلّ القرارات المتعلقة بأفراد أسرته، وقد نجح الأبناء بتكوين شخصية ورأي وامتلاك زمام أمورهم في صداقاتهم وأنشطتهم الاجتماعية، لذلك هم أقرب للإنسان الطبيعي من الأجيال السابقة، التي أنظر إليها كشّاب، على أنها في معظمها من فئة الدواجن الذين سبق سنّهم وعيهم بسبب القمع وتنميط آبائهم لهم.

ومن جهة أخرى أتاحت الحرب حاضنة للمراهقين من خلال ما يُعرف بالقوات الرديفة واللجان الشعبية وما شابه، فمنحتهم المال والحصانة وعزوة السلاح وسيط النضال.. ممّا أبعدهم إلى حدٍّ ما عن آبائهم كمرجعية، وفقد الأب إلى حدٍّ ما الطاعة التي كان يفرضها لأنه سند على كل الأصعدة.. فالاستقلالية المالية المُبكّرة تلعب دوراً في مدى قدرة الآباء على التأثير بحياة الأبناء، وهناك عوامل أخرى كثيرة أفرزتها الحرب مثل كثرة المشاكل الزوجية وتنامي ظاهرة فقدان التجانس الأسري إلى درجة التفكك، وتنامي العنف الأسري الناتج عن الضغوطات النفسية التي يفرضها الغلاء المعيشي وعدم قدرة الأُسر على تدبّر أحوال معيشتها إضافة إلى مسائل أخرى. ويُعدُّ انشغال الأب بالعمل لساعات إضافية طويلة لتأمين لقمة العيش سبباً في خلق ثغرة تربوية، فانحسار حضور أحد الأبوين في حياة الطفل أو الشّاب مسألة لها منعكساتها السلبية، وبما أن استطاعة الأبوين تراجعت من حيث تكريس حضورهما كمرجعية أخلاقية وكسند مالي للشّاب ريثما يشقُّ طريقه في الحياة بنفسه، فإن شعور الأبناء بالوفاء والامتنان تراجع، إضافة إلى الانفتاح على الأسواق العالمية وأنماط الحياة الاستهلاكية حيث تنامت علاقة الجيل الصاعد بالشيء على حساب الروابط الإنسانية.. وأضحى الفرد أكثر أنانية. وهناك أسباب موضوعية عديدة لتراجع تأثير الوالدين برؤى ومستقبل الأبناء منها مثلاً الانفتاح على دول العالم ومقارنة البلاد التي أسّسها الآباء بالبلاد الأخرى وعدم رضى الأجيال الصاعدة عن الحال المتأخر لبلادنا. وعن نفسي أجد الأجيال الصاعدة اليوم رغم كل مثالبها أقدر على التغيير والتحديث من الأجيال التي نشأت في كنف أب مستبد قمعي يفرض نفسه كمرشد أعلى، ويرفض أن يشقَّ أحد أفراد أسرته عصا الطاعة.. فالفرد الحرّ خيرٌ من الفرد المستنسخ المُنمّط مهما بلغت أخطاؤه وكبواته.

العدد 1104 - 24/4/2024