لكلِّ زمن قيم ومبادئ

إيناس ونوس:

قامت المجتمعات البشرية على مجموعة أسس ومبادئ سُميت بمنظومة القيم المجتمعية، اعتُمدت كشكلٍ من أشكال تنظيم الحياة البشرية، وقد تنوّعت واختلفت هذه القيم من مجتمعٍ إلى آخر تبعاً للحالة الخاصة بكل مجتمع، إلاّ أن مفاهيم محددة لم يختلف معناها بين هذا المجتمع وذاك، كالصِّدق والكذب، الأمانة والخيانة، الوفاء والغدر، الجرأة والخوف… إلخ.

فهذه المفاهيم لا تحتمل تعددية وجهات النَّظر، لكونها واضحة وضوح الشَّمس، ومن الممكن تعميمها على الصَّعيدين العام والخاص على حدٍّ سواء، وإن أُخضعت للتَّحوير والتَّلون فإن هدفاً أو أهدافاً محددةً تكمن خلف ذلك، وهذا أيضاً ينطبق على المستويين العام والخاص، ما جعل بعضاً من هذه المنظومة القيمية يخضع للتَّغيير، فكما لكل زمنٍ دولةٌ ورجالُ، كذلك لكل زمنٍ قيمٌ ومبادئ!!

ليست هذه دعوة لإفراغ تلك القيم من مضامينها ومعانيها، وإنما هذا هو الحال الذي وصلت إليه البشرية جمعاء وللأسف الشَّديد! ناتج خلق وإيجاد المبررات والمسوِّغات التي تتلاءم وتتناسب مع الظَّرف الرَّاهن، فالسَّرقة هي سرقة ولا يمكن توصيفها بغير ذلك، إنما تبرير فعلها أدى بها إلى أن تتحوَّل من فعلٍ شائنٍ مرفوضٍ إلى سلوكٍ يستحقُّ الثَّناء، كذلك الصِّدق والأمانة والجرأة قد تحوّلت جميعها لأن تصبح مفاهيم بالية عفا عليها الزَّمن، وأن يتحوَّل مُعتنقها بنظر الكثيرين من حوله إلى مهرِّجٍ بأبسط الأحوال إن لم يكن مريضاً بمرضٍ عضال لا يمكن الشِّفاء منه، ممّا يجعله مدعاةً للشَّفقة أو السُّخرية!

والمجتمع السُّوري منذ سنواتٍ طوال لم يكن إلاّ واحداً من المجتمعات البشرية التي دخلت بوتقة التَّحوير تلك، ولا يمكن اتِّهام الحرب وسنواتها الثَّماني فقط بهذا الحال، رغم أن الحرب أضافت مفاهيم جديدة وسلَّطت الضَّوء على ما كان يجري سابقاً سراً فأبرزته علناً. فاستخدام الدَّهاء من أجل التَّحايل على الوضع المعيشي والسِّياسي والاقتصادي والقبول به ظاهرياً بات شعار معظم السُّوريين رافعين رؤوسهم ب(حربقتهم) وقدرتهم على التَّأقلم مع أي ظرفٍ يفرض عليهم، ما جعلهم يُسوِّغون للسَّرقة كمثال على أنها حقٌّ مشروع أو استرداد لبعضٍ من حقوقهم وأموالهم المسروقة. أو يتبجَّحون بالوطنية وحب الوطن علناً في الوقت الذي يوقّعون سراً صكوك صفقاتهم التي باعوا من خلالها الوطن بما فيه مقابل مصالحهم الخاصَّة.

وكما سبق أن أسلفنا، من البديهي أن يشمل التَّغيير كلا المستويين العام والخاص، ما أدى إلى أن تنتشر وتطفو على السَّطح ثلَّةٌ من القيم التي كانت مُستهجنة ومرفوضة في السَّابق، لتُصبح هي الأساس في البناء الجديد. مفهوم العائلة مثلاً الذي صار قائماً على الحرية الفردية الكاملة دون أية مرجعية أو تشاركية، على مبدأ عش كما يحلو لك ودعني أعيش كما يحلو لي، أو مفهوم الأنانية القائم على مبدأ أنا ومن بعدي الطُّوفان، أو منظومة الأخلاق القائمة على أن يكون كل شيءٍ مُباحاً في السِّر بينما تُرفع الشِّعارات الطَّنانة المناقضة في العلن.

إن مجتمعاً قائماً على الكذب بكل تجلياته وأشكاله وصوره وألوانه كيف يمكن أن يكون نتاجه وحال أبنائه؟!

فحين يعتاد المواطن على كذب الحكومة المستمر بلا خجلٍ أو مواربة، يُعطي الأحقية لنفسه بالكذب على نفسه وعلى من حوله من أصغر دائرة وصولاً إلى الدَّائرة الأكبر أي المجتمع، فيصبح الأب يكذب على أبنائه، والمدرِّس يكذب على طلَّابه،… إلخ. فحبل الكذب لم يعد قصيراً، كما تعلمنا في المناهج المدرسية سابقاً بحكم وجود القانون الذي يحمي الكاذبين ويبرئهم بكل بساطة.

إلاّ أنه ومهما اختلفت الموازين، واستبدل النَّاس منظارهم للقيم والمبادئ الإنسانية وجيَّروها وفقاً للزَّمن الحالي، يبقى لهذه القيم والمبادئ مضمونها الذي لا يمكن إلاّ أن يكون هو الصَّحيح، لأنه أثبت على مدى عمر البشرية صحَّته ونتائجه.

فهلّا أعدنا نحن السُّوريين النَّظر بمنظومة القيم التي نحياها!؟ لربما تمكّنا ذات يومٍ من الوصول بأنفسنا ومجتمعنا إلى معنى الإنسانية الحقيقة ومعنى العيش في مجتمعٍ يحكمه القانون العادل!

العدد 1104 - 24/4/2024