ترف!

محمود هلال:

تعد دمشق من أرخص عواصم العالم للمعيشة، وذلك وفق مركز الأبحاث الاقتصادي البريطاني، لعام ،2018 ولكن حسب الخبراء ودراسات المهتمين بالشأن الاقتصادي ومعطياتهم (إن أخفض أجور في العالم هي في سورية). لذا يمكن اعتبار المعيشة في سورية رخيصة مقارنة مع دول الجوار وليس بمستوى دخل الفرد فيها، وهذه نقطة هامة، فمتوسط الدخل في دول الجوار يقارب 900 دولار شهرياً، بينما في سورية يبلغ نحو 100 دولار، أي ما يعادل 45000 ليرة سورية.

إن الرقم المذكور مثير للاهتمام ويدفعنا للتساؤل: كيف لهؤلاء أصحاب الدخل المحدود، في ظل موجة الغلاء وهبّة الأسعار التصاعدية التي رافقت سنوات الحرب، أن يتدبروا أمورهم المعيشية والحياتية براتب قليل كهذا؟ في الوقت الذي أصبحت فيه أصغر أسرة تحتاج إلى ضعفي هذا الرقم أو أكثر حتى تستطيع أن تكمل الشهر؟ قد يقول قائل: لا أحد يعيش على راتب واحد فقط، فمعظم العاملين بأجر يعملون عملاً ثانياً. ونقول: هذا صحيح، ولكن هؤلاء يعملون لا (فرفشة) أو ترفاً أو حباً بجمع الأموال أو لتكديسها أو إيداعها في المصارف، بل يعملون مرغمين على ذلك ليوازنوا بين دخولهم ومتطلبات الحياة الصعبة. يعملون على حساب صحتهم، وعلى حساب راحتهم، يعملون على حساب الجلوس مع أسرهم وأبنائهم، وعلى حساب القيام بواجباتهم الثقافية كالذهاب إلى السينما والمسرح ومشاهدة التلفزيون وقراءة الصحف والكتب وغيرها، وعلى حساب القيام بواجباتهم الاجتماعية بزيارة الأهل والأصدقاء ومشاركتهم أفراحهم وأتراحهم، يعملون لكيلا يتحولوا إلى لصوص ومرتشين وفاسدين في وظائفهم، ولكي يبقوا شرفاء محافظين على كراماتهم في نهاية العمر، ولكيلا يمدّوا أيديهم لأحد أو يتحولوا إلى (شحادين) في الطرقات وعلى أبواب الجوامع والكنائس وغيرها.

وهناك الكثير في العاملين بالدولة يبدؤون بالاستدانة والاستلاف على الراتب من بداية الشهر، وهناك عاملون في بعض المؤسسات والشركات تتأخر أجورهم وتعويضاتهم إلى عدة أشهر، والسؤال: ماذا يفعل هؤلاء بأنفسهم إذا لم يكن عندهم عمل ثان خارج أوقات الدوام الرسمي؟ هل يفتحون أفواه صغارهم للهواء وينتظرون؟

كان الراتب المقطوع في سبعينيات القرن الماضي لحملة الشهادة الجامعية 375 ليرة سورية، وللثانوية 210 ليرة سورية، وللإعدادية 180 ليرة سورية، وكان يكفي العامل ويزيد، ويستطيع أن يدخر منه لشراء بيت أو سيارة وكل ما يحتاج إليه، أما الآن مع تآكل القوة الشرائية للرواتب والأجور، فلو فكّر العامل بادخار كامل راتبه لاحتاج إلى عقود. ورغم كل هذا التردي في الأوضاع الاقتصادية والمعاشية للعاملين، هناك تعاميم تطلب من جميع الجهات العامة التقيد التام بأحكام المادة 64 من القانون الأساسي للعاملين بالدولة، والتشدد في تطبيق القانون ومنع العاملين في الدولة من الجمع بين وظيفتهم وعمل خاص آخر، دون أخذ موافقة الوزير الخطية. ويعدّ ذلك مخالفة مسلكية وإهمالاً في أداء الواجب الوظيفي يستوجب الملاحقة الجزائية والمسلكية.

بالمختصر، يمكن القول إن العاملين اليوم محاصرون بلقمة عيشهم ويضيق الخناق عليهم أكثر فأكثر! فليكن هناك قليل من الرحمة في القلوب، ويكفي هؤلاء ما هم فيه من فقر وجوع وشقاء! فلتعدّل رواتبهم وأجورهم، ليصبح راتب عمل واحد يكفيهم.

لقد تحمّل المواطن السوري عبء حرب لثماني سنوات، ورغم كل ذلك مازالت آماله كبيرة، وهو على قناعة بأن الحكومة ستفي بوعودها بكبح ارتفاع الأسعار، وسيكون هناك زيادة حقيقية على الرواتب والأجور!

العدد 1104 - 24/4/2024